بين المؤتمر الاقتصادي والثقافة الرأسمالية
بعد يومين سيتم عقد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، الذي يأمل الجميع في أن يكون خطوة على طريق انطلاق مصر الاقتصادي لاستعادة عافيتها اقتصاديا، وللانطلاق أكثر نحو العالم.
وبرغم التخوفات الأمنية من وقوع ما يُعكر صفو المؤتمر، خصوصا مع ارتفاع هوس الإخوان ومحاولتهم إفشال المؤتمر أو إحراج مصر بمزيد من العمليات الإرهابية، فإنّ- في الواقع- غالبية الضيوف المشاركين في المؤتمر يعرفون ويتابعون الوضع الأمني والاقتصادي جيدا منذ شهور، وبطبيعة الحال فإنه جزء من طبيعة عمل أي مستثمر أن يدرس الفرص المتاحة دراسة وافية تتضمن الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية ككل.
إذن فعلينا أن نتفاءل بمضمون الحقيقة التالية، أن مجيء ضيوف ذوي مستوى تمثيلي عال لشركات أو مؤسسات عالمية أو إقليمية كبرى يعني أن هذه الجهات قد اختارت المشاركة، بعد أن درست الأوضاع في مصر بالفعل واعتبرتها مناسبة، وأنها تتعمد إرسال رسالة جدية لمصر مضمونها الاستعداد للمشاركة في الاستثمار، فالمستثمر الجاد لا يضيّع وقته في الزيارات الروتينية.
يبقى التفاؤل حذرا في انتظار المشروعات التي ستعرضها الحكومة في المؤتمر، وعددها وكونها مقنعة للمستثمرين من عدمه، وفي انتظار مدى وضوح الرسالة التي سترسلها الحكومة بشأن خططها الاقتصادية المُقبلة.
على مدى شهور رأينا الحكومة ترسل إشارات في اتجاهات مختلفة، فمرة تتجه بنا نحو اقتصاد السوق، ومرة تقوم بإجراءات حمائية كما فعلت عند إصدار قانون المنتج المحلي أو عند زيادة الجمارك على المصنوعات الجلدية المستوردة خمسة أضعاف لحماية منتج محلي من المسلم به أنه سيكون أعلى سعرا وأقل جودة، بالإضافة إلى الصراع مع بعض المستثمرين حول استرداد بعض الأراضي المخصصة لهم.
وهذه كلها اتجاهات قد تبدو غير مطمئنة، ولكن يقابلها من جهة أخرى إشارات أخرى أهمها مشروع قانون الاستثمار الموحد، الذي يبدو من مسودته الحالية أنه سينجح في تبديد جزء- لا بأس به- من مخاوف المستثمرين بالأخص فيما يتعلق بالشباك الواحد والضريبة على الدخل وطريقة الحل القانوني للمشكلات.
في جميع الأحوال فإنّ وجود أي قرارات إيجابية أو قوانين أو مشروعات يجب أن يقترن بوجود رؤية اقتصادية واضحة للحكومة، تحسم به توجهها الاقتصادي، وهذا الحسم لكي ينجح في دفعنا للأمام يجب أن يكون باتجاه الاقتصاد العالمي والانفتاح على العالم مما يتطلب إقناع الناس بهذا التوجه.
إن الضامن الأكبر لنجاح نظام اقتصادي هو اتجاهه أكثر نحو السوق الحرة، والضامن لاستمرارية النجاح هو ضمان ثبات هذا التوجه واستمراره، والذي بدوره لن يحدث إلا عن طريق قبول وتأييد شعبي، وهذا القبول يتطلب أن يقوم الإعلام بدوره في عرض وتبسيط الحقائق الاقتصادية التي يتم تشويهها يوميًا في أذهان الناس.
ليس من الطبيعي الاعتماد فقط على المسؤولين التنفيذيين في الشرح والترويج لأهداف ولضرورة التوجه نحو الاقتصاد الحر، بل من الطبيعي أن يكون هذا التوجه قائما أيضًا في الجهات التي تشكل الرأي العام في مصر كالصحافة والفضائيات، يجب أن ينتهي الترويج لمفهوم التكية إلى الأبد.
لا يمكن أن ندفع ملايين من جيوبنا في صحف قومية وتليفزيون حكومي معظمها أو كلها خاسرة، ثم بعد أن ندفع فإننا أيضا نجد دور هذه المؤسسات ليس التوعية بقيم الحداثة، بل الترويج لمفاهيم الاقتصاد المغلق والمحمي والمعزول التي ثبت فشلها، والتي تنتمي لعالم التضليل بالشعارات.
الضامن الأكبر لاستقرار المنظومة، وللتحول إلى جزء من العالم المتقدم هو ببساطة استبدال المنظومة الثقافية المتهالكة بمنظومة ثقافية رأسمالية.
المشكلة أن كثيرين لدينا لم يدركوا أن الحضارة والحداثة هما أساسا نتاج الرأسمالية، ليس بمفهومها الاقتصادي فحسب، بل الرأسمالية بمفهومها الثقافي والمعرفي الواسع، وهو ما أدركه العالم كله منذ قرنين ونصف على الأقل، عندما كان يتعجب لماذا نجحت بريطانيا أساسا وهولندا بدرجة أقل قبلها في التفوق على كل أمم العالم بما فيها تلك التي امتلكت المستعمرات الواسعة ومناجم الذهب والفضة الهائلة في العالم الجديد كإسبانيا والبرتغال.
ورغم تعدد تلك الأسباب والتي فسرها سميث وماركس وفيبر بتفسيرات مختلفة ومعظمها مبني على فرضيات سابقة، إلا أن السبب الثقافي الأكثر وضوحا هو شيوع الثقافة الاقتصادية واعتياد النقاش العام في المسائل الاقتصادية في بريطانيا، والذي حسم في وقت مبكر للغاية ما لا يزال يناقشه البعض لدينا اليوم.
على سبيل المثال فلعله من المفيد أن نعلم أن الإنجليز الذين اعتادوا ارتداء الصوف والكتان طيلة قرون، فوجئوا بقيام شركة "الهند الشرقية" الإنجليزية باستجلاب القطن من الهند، وتعليم حرفيين إنجليز كيفية صناعة منسوجات قطنية منه تناسب الذوق الإنجليزي، وأن الأمر استهوى الإنجليز من كل الطبقات بحيث تحول الأمر إلى موضة استهلاكية لرغبتهم في التجديد وللرفاهية، سيصبح ذلك لاحقا أساسا لدراسة سلوكيات المستهلك ودراسة علم النفس عموما، وسيتخذ دليلا على اتفاق الرأسمالية مع طبيعة داخلية للإنسان، وبرغم أن ذلك كان في حدود عام 1680 فإنّ حركة مقاومة ظهرت من صانعي الصوف والكتان المحليين الذين قاوموا هذا لإضراره بمصالحهم، ولكنهم غلفوه بمنطق اقتصاد "الميركانتليين"، فقد قالوا إن الهدف من التجارة هو التصدير وليس الاستيراد الذي يؤدي إلى فقد العملة إلى الخارج، فضلا عن اعتبارهم الرفاهية نوعا من الخطيئة.
هؤلاء التجار واجهوا ردودا قوية من المواطنين المناصرين للشركة، والذين اعتبروا أن هؤلاء التجار يسعون لسرقة المستهلك بإجباره على دفع مبلغ أكبر في سلعة لا يريدها بالقوة.
في الردود التي أثيرت آنذاك في كتيبات نشرها مؤلفوها مثل : دودلي نورث 1681 ونيكولاس باربون 1690 ستجد جملا مثل هذه (أن هذه السلع الكمالية ليست مصدرا للخطيئة وإنما بواعث على الفضيلة والبسالة وارتقاء العقل، فضلا غن كونها مكافأة منصفة للصناعة ) (لو كان البشر يقنعون بمجرد إشباع حاجاتهم الضرورية لتعيين علينا العش في عالم يسوده الفقر).
المهم أن التجارة الحرة والثقافة الرأسمالية انتصرت، وبهذه القيم والثقافة انتصرت بريطانيا، التي كانت البلد الوحيد الذي مهد هذا كله فيه للثورة الزراعية في القرن الثامن عشر ومن بعدها الصناعية في القرن التاسع عشر، والبلد الوحيد الذي كان مواطنوه عام 1700 أعلى دخلا وأقل تعرضا لسوء التغذية والمجاعات من نظرائهم في كل أنحاء أوروبا.
الثقافة القائمة على القيم الرأسمالية هي ضرورة ملحة لتحويل المجتمع نحو المبادرة والفردانية واحترام الحريات، والتنافس، وإعلاء قيمة العمل والكفاءة.