التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 06:33 م , بتوقيت القاهرة

إحسان عبد القدوس إلى جمال عبد الناصر: لم ألحد لكن المجتمع منحل

بدأت خُطى التراجع التدريجي لدور المثقف في المجتمع المصري، بعد ثورة 23 يوليو، حينما بدأت الرقابة على الكلمة تأخذ دورًا كبيرًا، وتحول المثقفون إلى دور شرفي، يحصلون على المجد الأدبي والتكريم، دون استغلالهم في تغيير واضح ملموس، وقد استفاض الكاتب بهاء طاهر، في دراسة نقدية، صدرت عام 1993، بعنوان "أبناء رفاعة: الثقافة والحرية"، في الحديث عن دور المثقف الذي تصاعد مع بدايات القرن العشرين، وانحسر في نصفه الثاني.


السطور السابقة تأخذنا إلى التجربة الناصرية مع المثقفين، وكيف كانت الدولة تتعامل مع أصحاب الكلمة، مثل مصطفى أمين، وإحسان عبد القدوس، والأخير بدأت علاقته بـ جمال عبد الناصر، قبل ثورة 23 يوليو بثلاث سنوات، يقول إحسان: "عرفت جمال عبدالناصر حوالى سنة 1949، كان يتردد على مكتبي في روز اليوسف، كان يأتي كأي ثوري، يبحث عن طريقه ويستطلع الأخبار، وكان يصطحب معه أحد الضباط وهو "رشاد مهنا" أو صديقاً آخر، وكان صامتًا دائمًا يستمع أكثر مما يتكلم، والواقع أني فوجئت في أول أيام الثورة بأنه هو الزعيم وقائد ثورة 23 يوليو 1952". وبعد أسبوعين فقط على الثورة كتب إحسان: "أصبح معروفا أن الرجل الثاني في الدولة بعد الرئيس محمد نجيب، هو البكباشي جمال عبدالناصر".


ممنوع "الحب"
وبعد عامين على الثورة، بدأت العلاقة بين الأديب والزعيم تأخذ منعطف جديد. كان إحسان عبد القدوس ينهي يوميًا برنامجه في الإذاعة بجملة: "تصبحوا على خير.. تصبحوا على حب"، ما أثار اعتراض جمال عبد الناصر، الذي كان متحفظًا إلى درجة التزمت، وفقًا لرأي إحسان الذي نشره في مجموعته القصصية "أسف لم أعد أستطيع"، وطلب ناصر استبدال كلمة "حب" بـ "محبة"، وهو الأمر الذي رفضه إحسان، وانقطع بعدها عن تقديم برنامجه إذاعي.


وقد كانت رغبة عبد الناصر، سببها وشاية من بعض رجاله ضد إحسان، حيث رأوا أن كاتب الرومانسية، يدعو المجتمع من خلال كلمة "حب"، إلى ممارسة الجنس، ساعد على ذلك الاتجاه العام الذي اتخذه إحسان في "روز اليوسف"، حيث فضل التقليل من تدخل رقابة الدولة على الصفحات السياسية، باهتمام السياسة التحريرية بالصفحات الاجتماعية والثقافية، والدينية. وذلك قبل قرار تأميم الصحافة في 24 مايو 1960.


أزمة البنات والصيف
عام 1955، نشر إحسان عبد القدوس، مجموعته القصصية "البنات والصيف"، وفي ذات الوقت أتاح المجال لدكتور مصطفى محمود، لنشر مقالاته عن فلسفة الدين في"روز اليوسف"، وكلا الأمرين لم يرضيا جمال عبد الناصر، الذي قرأ القصص التي تنشر، ولم يعجبه ما أثاره إحسان من قضايا تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، وبإيعاز من ناصر تدخل الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، ومدير الرقابة حسن صبري، لتعديل الاتجاه الذي تسير فيه قصص "البنات والصيف". إلى جانب مقالات مصطفى محمود، وجد فيها ناصر تحررًا دينيًا غير مقبول.


خطاب إلى الزعيم
عندما وجد إحسان عبد القدوس، تلك الملاحظات، قرر أن يرسل خطابًا توضيحيًا إلى جمال عبد الناصر، يدافع عن أفكاره وتوجهاته، تلك كانت طريقة التواصل مع رئيس الجمهورية آنذاك، لكن هذا الخطاب لا يعلم أحد، وإحسان نفسه يجهل، هل أرسل ذلك الخطاب إلى الرئيس، أم نسيه في درج مكتبه؟!. وعندما اكتشف وجوده، قرر أن يتصدر مجموعته القصصية "أسف لم أعد أستطيع"، عام 1980.


في هذا الخطاب، نفى إحسان عبد القدوس، عن نفسه تهمتي الدعوة إلى الجنس والألحاد، وقال: "أن ما أراه يا سيدي الرئيس في مجتمعنا لشيء مخيف، إن الانحلال والأخطاء والحيرة والضحايا، كل ذلك لم يعد مقصورًا على طبقة واحدة من طبقات المجتمع بل امتد إلى كل الطبقات"، وأضاف في مقطع أخر: "أبلغني صديقي هيكل أن سيادتكم قد فوجئت عندما قرأت إحدى قصص «البنات والصيف» بما يمكن أن يحدث داخل الكبائن على شواطئ الإسكندرية، والذي سجلته في قصصي يا سيدي الرئيس يحدث فعلا، ويحدث أكثر منه، وبوليس الآداب لن يستطيع أن يمنع وقوعه، والقانون لن يحول دون وقوعه، إنها ليست حالات فردية كما قلت، إنه مجتمع منحل، ولن يصلح هذا المجتمع إلا دعوة".


كما أشار إحسان إلى جانب من شخصيته، ليبرهن لناصر أنه لم يدعو للإلحاد، عبر مقالات مصطفى محمود، وكتب في تلك الفقرة دعوة صريحة لتجديد الخطاب الديني: "إنني مؤمن بالله يا سيدي، لست ملحدًا، ولعلك لا تعرف أنني أصلى، ولا أصلى تظاهرًا ولا نفاقًا، فجميع مظاهر حياتي لا تدل على أنني أصلى، ولكنني أصلى لأنني أشعر بارتياح نفسي عندما أصلي. ورغم ذلك فإنني أعتقد أن ديننا قد طغت عليه كثير من الخزعبلات والأتربة والتفسيرات السخيفة التي يقصد بها بعض رجال الدين إبقاء الناس في ظلام عقلي حتى يسهل عليهم استغلال الناس والسيطرة عليهم، في حين أنه لو تطهر الدين من هذه الخزعبلات ونفضنا عنه هذه الأتربة لصلح ديننا وصحت عقولنا ونفوسنا وسهل على قيادتكم أن تسير بالشعب في الطريق الذي رسمته له".