التوقيت السبت، 23 نوفمبر 2024
التوقيت 01:38 ص , بتوقيت القاهرة

أقيلوا وزير العدل: دولة رد قلبي تكشف أوهامها

من عاشوا منا في قرى أو ترددوا عليها يعلمون أن التراتبية شيء أصيل في ثقافتها. عبارات كـ"ابن مين في البلد" و"إحنا أسياد البلد" و"العين ماتعلاش عن الحاجب" متداولة في كل خلاف. ما قاله وزير العدل مجرد تصريح بما هو سائد، وما تبنته ثقافة دولة يوليو واعتبرته مرجعية قيمية لها.



ما قاله وزير العدل هو ما يفعله العاملون حين يتظاهرون مطالبين بتعيين "أبناء العاملين"، وما يشيعه الأطباء من أن الطب "يورث ولا يدرس"، وما يمارسه أساتذة الجامعات من غش وتدليس لكي يرث أبناؤهم وظائفهم.


الموضوع أكبر من مجرد تصريح سياسي.


حين نقول إن سبب تخلف مصر هو سيادة الثقافة القروية يعتقد أناس أننا نتحدث عن القرويين كأشخاص. وليست تلك الحقيقة. الحديث هنا عن القرية كمركز للتأثير في عصر معين، في مقابل "السيتي" كمركز للتأثير الثقافي في عهدنا الحالي. في العهد الذي سيطرت فيه القرية كان هناك إقطاع، أسياد ومأجورون، أصحاب أملاك مقابل عمال سخرة. ليس هنا مجال اعتراض أو قبول لهذا الوضع، في النهاية كان هذا الوضع ابن عصره، وابن طريقة الإنتاج في عصره.


إنما كل هذا تغير مع ثورة الحداثة والتنوير، التي أنتجت العالمانية ثم الديمقراطية. والتي أخذت السلطة من الملوك وبطانتهم وأعطتها لعامة الشعب، للمجتهدين الذين يثبتون أنفسهم من عامة الشعب بجميع طبقاته. سواء كان ونستون ابن لورد تشرشل أو مارجريت ثاتشر ابنة البقال ألفريد روبرتس. هذا هو المتوافق أكثر مع عصرنا وطريقة إنتاجه. عصر السيتي، كمركز ثقافي، عصر الغرباء الذين يتعايشون متجاورين، متعاونين وليسوا متداخلين، متنافسين على أساس من المساواة، وطموحين إلى حيازة المزيد بمهاراتهم تلك. في مقابل عصر العشائر والقيم التي تركز الثروة في أيدي عائلات بأعينها.


ستقولين لي: لكن دولة يوليو رفعت شعارات العدل والمساواة والانتصار للفقراء. سأقول لك: هذا وهم. لقد رفعت دولة يوليو هذه الشعارات. نعم. لكنها رفعتها لسبب وحيد، لكي يحلوا طبقتهم مكان الطبقة التي كانت موجودة. وبمجرد أن تولت طبقتهم السلطة رسخوا التوريث كسلوك تلقائي نابع من ثقافتهم.


جمال عبد الناصر كان ابن بوسطجي، لكنه دخل الكلية الحربية في العهد الملكي. كم ابن بوسطجي الآن يستطيع أن يدخل إلى الكليات العسكرية وكليات الشرطة، كم ابن بوسطجي يستطيع أن يجتاز كشوف الهيئة الآن!


ستقولين لي لكن كشوف الهيئة شيء مهم جدا، هل يعقل أن يكون مندوبونا في الخارجية أشخاصا لا يجيدون الحوار ولا الحضور.


سأقول لك نعم. كشف الهيئة مهم جدا. لكن يجب أن يكون كاسمه، كشف الهيئة وليس كشف الطبقة والنسب. أن يكون الاختبار فيه خاصا بالمهارات والقدرات وليس شجرة العائلة. يكفي أبناء الأغنياء ميزة أن لديهم فرص تعليم أفضل. هذا يعطيهم ميزة تنافسية. لكن أبناء العصاميين الذين يجيدون نفس المهارات يستحقون الاقتناص لأنهم جاؤوا مشوارا أبعد وأثبتوا قدرة تحد أكبر.


كشف الهيئة كاختبار الكاميرا. ما دامت المتقدمة تثبت قدراتها في الحضور والقراءة والقبول فهذا ما يعنينا. لا يعنينا بنت من هي. لو كانت الأمور كذلك لحرمت بريطانيا نفسها من بعض أبرز سياسييها، ولحرمت أمريكا نفسها من أهم ميزاتها - تشجيع الطموح.


لكننا هنا نترواح بين فريقين كليهما متطرف، وهما وجهان لعملة واحدة. فريق يمجد الفقر (ويبعده)، وفريق يسب الغنى (وينحني للأغنياء). بينما ما يجب علينا كمجتمع أن نفعله أن نمجد المهارات والقدرات، بغض النظر عن طبقات أصحابها. ذم الفقراء طبقية، وذم الأغنياء طبقية. تفضيل الفقراء طبقية وتفضيل الأغنياء طبقية. كلاهما منبوذتان في قيم عصرنا.


وهنا نعود إلى وزير العدل. ما قيم عصرنا حين نأتي إلى السياسة؟


إن إدارة الحكم تقول إنها تسعى لبناء دولة حديثة. هذه الدولة الحديثة تكتب قيمها في الدستور، وتطبقها. إن كتبتها في الدستور حبرا على ورق فلا قيمة لها، ولا لادعائها. من هذا المدخل لا بد من إقالة وزير العدل. لأنه كمسؤول في الحكومة يجب أن يكون مثالا في تطبيق الدستور الذي يدعي أن لا تمييز بين المصريين. ولأن إقالته أقل ما يجب فعله لكي تثبت إرادة الحكم أنها تسعى إلى التغيير إلى دولة حديثة، إلى قيم دولة حديثة. وأنها لا تستخدم ذلك كمجرد ادعاء بينما تبقي على قيم التخلف و"التوريث" - ياللي بتقولوا إنكم انتفضتم على مشروع التوريث - قائمة.


حكى الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد حواراته التليفزيونية عن نفسه أنه لا يقبل الواسطة أبدا. حسنا. هذا شيء جيد. لكنه يخصه طالما كان بعيدا عن منصبه كرأس للدولة. ما يعنينا منه حاليا هو كيف يتعامل مع المشكلة الاجتماعية السياسية نفسها. كيف يتعامل مع التوريث. كيف يتعامل الوزراء الذين يختارهم مع التوريث.



السيسى: مبحبش الواسطة وتم رفض ابني مرتين من وزارة الخارجية


هذا اختبار حقيقي. الإصلاح السياسي أكبر من الكلام، وأكبر من السلوك الشخصي.