التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:32 م , بتوقيت القاهرة

بروفايل.. آمال فهمي.. ملكة الحنجرة الذهبية «على الناصية»

عندما أراد عبد الحليم حافظ، أن يبحث عن وسيلة منطقية ومختصرة تضمن معرفة حبيبته مريم فخر الدين، بقدومه إلى القاهرة مع رفيقه عبد السلام النابلسي، وفي الذات المشهد يعجب بصوته منتج فني، يبحث عن المواهب الجديدة، لم يكن أمامه سوى آمال فهمي، وبرنامجها «على الناصية»، أشهر برنامج إذاعي ارتبط بهموم الناس، وأنحاز للبسطاء، وقدم المواهب الجديدة، لذا لم يندهش جمهور السينما من صعود سريع للعندليب في «حكاية حب»، لأن دور البرنامج في الواقع لم يختلف كثيرًا عن قصة الفيلم.
download (2)
 
سيدة المسرح الأولى
لم تكن آمال فهمي، تدرك أن اللقاء الأول مع ميكروفون الإذاعة في برنامج «ماما زوزو»، وهي في الخامسة من عمرها، هي نقطة البداية لمشوار إذاعي يعبر عن الناس ومعاناتهم، وينقل نبضهم، ومشكلاتهم، في ذلك اليوم، كانت فقط طفلة صغيرة قصيرة احضروا لها مقعدًا حتى تستطيع الغناء أمام الميكروفون في برنامج «ركن الأطفال»، ولم تترك التجربة فيها أثرًا، سوى سعادة لحظية مثل باقي الأطفال.
Capture
الطفلة آمال فهمي
في بيت العائلة بعابدين؛ تستمع آمال لحكايات والدها البطولية، الذي كان يفخر بعضويته في جماعة «اليد السوداء»، التي حاربت الإنجليز، سنها الصغير لم يكن يسمح لها بفهم كل المفردات التي يذكرها، مثل الاحتلال، والثورة، والمظلومين، والأحزاب، لكن التأثير الذي اخترق حواجز الفهم المحدود، جعل الفتاة تعلم أن لها دورًا في الحياة، وحريتها في اتخاذ القرار حق وليس طلبًا، لهذا لم ترضخ لرغبة الأب وتلتحق بكلية الحقوق، وقررت أن تصبح صحافية، وفي الجامعة اشتركت في المظاهرات ضد الملك فاروق، مع الإذاعي جلال معوض، وكانت نجمة أكثر من عرض في مسرح الجامعة، وتلقت أكثر من عرض لاحتراف التمثيل مع يوسف وهبي، ورمسيس نجيب، لكنها فضلت الصحافة.
 
أمر أمير الأمراء
بعد 5 أشهر من العمل في الصحافة، تحصل على 3 جنيهات و60 قرشًا، نظير عملها في مجلة «مسامرات الجيل»، تشعر الشابة الطموحة أن دورها في الصحافة لم يكن براقًا كما تمنت، تذهب إلى والدها وتخبره بقرارها المصيري: «بابا سأترك الصحافة.. أنا قررت أقدم في الإذاعة».
 
أمام لجنة الامتحان، وقفت آمال فهمي تقرأ بثقة، لم تهتز بسبب ضعف نطقها لحرف الراء، فوجئت بهم يطلبون منها أن تقول: «أمر أمير الأمراء»، وبتحدي قالت:«أستطيع أن أقولها كاملة، أمر أمير الأمراء بحفر حفرة في الصحراء؛ ليشرب منه الفقراء»، أدهشهم قدرتها على المواجهة، ومع معرفتهم السابقة بنشاطها الحزبي، جعلتهم لا يترددون في قبولها، وكانت بداية مشوار الإذاعية آمال فهمي.
 
بعد عامين فقط من عملها الإذاعي، أرسل لها مواطن عراقي خطابًا يشيد بصوتها وببرنامجها على الناصية، كتب في مقدمته: «إلى صاحبة الحنجرة الذهبية آمال فهمي»، من وقتها صار لقبها، وكأن نواصي الشارع التي خلدتها في حلقات البرنامج، تهبها تسمية تليق بما قدمته للناس، ليس نيشانًا ملكيًا، أو شهادة تقدير بقرار جمهوري،  فقط رجل بسيط استمع إلى «على الناصية».
 
إذاعة الشرق الأوسط
عام 1964، وقتها كانت آمال فهمي عمرها 32 سنة، فوجئت بقرار تعيينها مدير إذاعة الشرق الأوسط، لتصبح أول امرأة تشغل هذا المنصب، تحديًا جديدًا جعلها تقدم أشكال إذاعية جديدة، وتبتكر في الفقرات، اخترعت موجز الأنباء، وجعلت البرامج الصباحية والمسائية خمس دقائق فقط، وضمت الشيخ محمد رفعت قارئًا للمحطة، قدمت المسلسلات المميزة، وجعلت محمد عبد الوهاب، يقدم عمل إذاعي نادر اسمه «شيء من العذاب»، وأقنعت الشاعر نزار قباني بالتمثيل أمام نجاة الصغيرة.
67815-free-772851970415797216
لم تترك مصادفة تعطل سيارة زوجها في الشارع، دون أن توظفها في حياتها المهنية، كان تجلس في العربية، وفجأة سمعت صوت «منفاخ العجل»، فقررت أن تقدم الفوازير لأول مرة في الإذاعة، والفكرة كانت عبارة عن اختبار أصوات مختلفة، ودور المستمع أن يحدد مصدر الصوت الصحيح، ذهبت إلى مكتبها وبدأت تنفيذ الفكرة، 3 أشهر من العمل قبل رمضان، وكانت النتيجة نصف مليون رسالة من المستمعين.
 
عبد الناصر والسادات
أمام جمال عبد الناصر، فقدت النطق لأول مرة في حياتها، ومن خلفها مهندس الصوت يضربها على ظهرها لتخرج من حالة الخرس الفجائية، تلك هي المرة الوحيدة التي رأت فيها الزعيم عن قرب، عندما افتتح مصنع للأسمدة في حلوان عام 1967، بعدها بكت لأول مرة بعد ضياع تلك الفرصة، لكن الحياة أعطتها فرصة جديدة، عندما عرفت أن الرئيس يتابع بحرص برنامجها «على الناصية»، وكان فاعل خير أكثر من مرة، لحالات إنسانية ظهرت في الحلقات، تلك العلاقة غير المباشرة، جعلتها تدرك أن رسالتها في إنصاف المظلومين والبسطاء تحققت، دون أن تدخل مجال المحاماة الذي أراده الوالد.
91d79cf00cf682f9760ea4457d8aedd7
أما السادات، كان بطريقته المميزة يطلب من مديرة الإذاعة آمال فهمي، سماع أغاني أسمهان في الشرق الأوسط، تلك العلاقة المباشرة جعلته عندما أصبح رئيسًا للجمهورية، يحاول إعادتها لمنصبها، ولـبرنامج «على الناصية»، بعد توقفهما لمدة ثماني سنوات، بعد غضب أحد رجال الثورة عليها، عندما أذاعت في البرنامج مشكلة عدم وصول المياه إلى قرية مصرية قريبة من قريته في الزقازيق، واتضح من كلام الناس أن المسئول الكبير استخدم نفوذه لوصول الخدمة إلى قريته وأهمل الآخرين، لم يكن هذا المسئول سوى «علي صبري»، أحد قيادات الصف الثاني في مجلس قيادة الثورة.
 
«أنتِ كنتِ علامة على إني أملك ولا أحكم، أنا اكتشفت إني مش عارف أرجع مذيعة»، بتلك الكلمات استقبلها أنور السادات في منزله، وأخبرتها السيدة جيهان السادات أن الرئيس حاول 20 مرة إعادتها في ستة أشهر ولم يستطع، بسبب مراكز القوى التي كانت مسيطرة على مقاليد الحكم بعد وفاة ناصر، لكن في النهاية انتصر السادات لرغبته، بعد ثورة التصحيح في 15 مايو 1971، وبعد يومين فقط، نشرت جميع الصحف خبر عودتها للشرق الأوسط.
 
لا للتلفزيون
لم تكن آمال فهمي تحب التلفزيون، حبها للإذاعة جعلها تطلق على الشاشة المرئية لقب «الغول»، الذي ينام بعد منتصف الليل، لتبدأ سهرات البرنامج العام، والفترة الممتدة التي تتيح الفرص للشباب الجديد، في معظم حواراتها كانت لا تخجل من انتقاد المذيعين والمذيعات الموظفين، الذين ابتعدوا عن الهواية والحرفية، ويقدمون أداءً ضعيفًا في النشرات الإخبارية، كانت تغار على بيتها الثاني، من التلفزيون الذي أخذ كل المجد والاهتمام المادي والمعنوي، لدرجة أنها صرحت: «أنا اعتبر اسمي بالكامل.. أمال فهمي الشرق الأوسط».
 
في أواخر التسعينات، اكتشفت آمال فهمي أنها تحصل مقابل إعداد وتقديم وإخراج ومونتاج برنامج «على الناصية»، 1500 جنيه فقط، بينما تلميذاها حمدي قنديل، ومفيد فوزي، يحصلان على 12 ألف جنيه في التلفزيون، هذا الفرق الشاسع جعلها تهدد بترك ميكروفون الإذاعة، والعمل في مجال آخر، وبالفعل صرحت لمجلة روز اليوسف، أنها قد تقبل عروض للتمثيل في التلفزيون، بعد أن تأكدت أن ميزانية الإذاعة لن تسمح بمساواتها بأجر من يظهر على الشاشة، لكن هذا التصريح لم يخرج عن نطاق القول فقط، واستمرت آمال فهمي في الذاكرة ملكة الحوار المتوجة على الناصية.