التوقيت الإثنين، 04 نوفمبر 2024
التوقيت 08:02 م , بتوقيت القاهرة

"اليتيم" في التراث الشعبي.. معاناة فصراع ثم انتقام

من حسنات رائد الفن الشعبي زكريا الحجاوي، محاولاته الناجحة في نقل التراث الشعبي والملاحم الأسطورية، من قرى ونجوع مصر، إلى صفحات المجلات والإذاعة والتلفزيون، والأخير كان يحتاج في بداية صدوره في الستينيات إلى نصوص درامية تعبر عن الشعب المصري، بعيدًا عن تراجم الأدب الروسي التي كانت مسيطرة على المشهد الثقافي مثل تشيكوف، وجوركي، لذا كان الاحتفاء بـحارة نجيب محفوظ، وقصص يوسف إدريس، نابع من رغبة الوسط الثقافي الابتعاد عن "فرنجة" الأدب، والغوص في الجذور المصرية منذ الحضارة الفرعونية، مرورًا بالعصر الإسلامي، وصولًا إلى مصر الحديثة.
زطريا-الحجاوي
زكريا الحجاوي
عودة إلى رصد الطرق غير الممهدة لعابر السبيل زكريا الحجاوي، نجد أن تأثير الأغاني التي كان يسمعها -طفلًا- من أهله صيادي السمك بالقرب من بحيرة المنزلة، جعلته ينصرف -شابًا- إلى ميادين الملاحم والأغاني الشعبية، يطوف المحافظات، ويسجل الرقصات الفلكلورية، ويجمع التراث والملاحم الغنائية، ثم يعيد تقديمها في نصوص مسرحية ودرامية شديدة الخصوصية، وحققت نجاحًا كبيرًا عند عرضها في زمن الأبيض والأسود، أشهرها ملحمة "سعد اليتيم"، التي تتماهى مع مزاج الشعب المصري، الذي تستهويه دومًا صراعات الخير والشر.
تستمد السيرة الشعبية سعد اليتيم، جذورها من الأسطورة الفرعونية "إيزيس وأوزيريس"، مع بعض الاقتباسات من قصة سيدنا موسى مع الطاغية فرعون، ويشترط الموروث الشعبي في بطله، وجود مأساة ومعاناة في نشأته تلازمه في مراحل حياته، وبدونها يصبح شخصًا عاديًا تهمله ذاكرة الرواة وعازفو الربابة.
 
الأزمة في حياة البطل هي النواة التي يبدأ منها صناعة أسطورته، لولا تنكر رزق الهلالي لبشرة ولده السمراء، لكانت حكاية أبو زيد الهلالي، ليس لها معنى، كذلك الأمر مع عنترة بن شداد، الذي قاوم الرق بقوة السيف والشعر، أما سعد اليتيم، هو المنتقم الشريف العائد من المجهول، يرد الحقوق إلى أصحابها، وينتقم لمقتل أبيه من العم الشرير.
 
اللافت أن الملحمة الشعبية ارتكزت على خروج الخير والشر من أرض واحدة، مثل أوزوريس وأخيه ست أبناء "جب"، وهابيل وقابيل أولاد "آدم"، ثم فاضل وبدران أبناء مبعد، جميعهم بدأ بينهم الصراع رغم رابطة الدم، وهو بعد جديد يضاف لمأساة البطل الشريف سعد، الذي يدخل في صراع داخلي حول قدرته على قتل العم، لكن الخسة التي يجدها من العم تعجل بالنهاية المحتومة.
EgyptianGodsTR (4)
الحكاية القديمة التي تبدأ بالخيانة والقتل، وهروب الأم متنكرة للابتعاد عن بطش شقيق الزوج، ثم عودة الابن بعد سنوات الغربة للانتقام، أخذت أكثر من شكل درامي، وتم تقديمها في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، بعضهم احتفظ باسم العمل الأصلي، والبعض الأخر قدم معالجات مختلفة ورموز سياسية أخذت حكاية من الموروث الشعبي لدوائر صراعات جديدة.
 
مسلسل "سعد اليتيم" الذي قدم ياسر جلال بطلًا لأول مرة عام 1997، ألتزم بالسيرة الشعبية التي قدمها الحجاوي زمانيًا ومكانيًا، وأعطى للبطل بعدًا أسطوريًا يتناسب مع ملامح الفروسية وشطارة الملاعيب التي مارسها مع قتلة أبيه، الغريب أن هذا المسلسل وقت عرضه تمت معاملته مثل "ابن البطة السوداء"، على حد قول الناقدة ماجدة خيرالله، لأنه تم عرضه بدون دعاية أو اهتمام إعلامي، وميزانية إنتاج محدودة، وموعد عرض قبل الفجر، ومع ذلك حقق نجاحًا كبيرًا وقت عرضه، تلك السنة كانت فأل خير لياسر جلال، الذي قدم فيها دور الفارس مرتين، الأول ملحمة سعد، والثاني دور محمود الذي قاوم الاحتلال الفرنسي في الجزء الثاني لمسلسل الأبطال.
 
يستلهم الكاتب يسري الجندي، روح الموروث الشعبي في معظم أعماله، وقدم سيرة سعد اليتيم في أشكال مختلفة، مثل مسلسل "حصاد الشر" عام 1984، الذي انتقل بالسيرة الشعبية إلى قرية مصرية، شهدت صراعًا بين المتطلع الشرير غريب زيدان (حسين فهمي)، والفلاح المصري الطيب الذي جسده أحمد ماهر، وبعد مقتله بسنوات ينتقم لموته ولده العائد (طارق الدسوقي).
مسلسل حصاد الشر
مسلسل حصاد الشر
بعد عام واحد، يعيد يسري الجندي، تقديم نفس السيرة في فيلم "سعد اليتيم" وتلك المرة جعل الأسطورة تنتقل إلى الحارة الشعبية وعالم الفتوات، كانت الأفلام السينمائية في الثمانينات تشهد رواجًا لتلك الأعمال المستمدة من رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ، لذا كانت براهين النجاح للعمل واضحة، صراع بين فتوة وبطل شعبي (بعيدًا عن عالم محفوظ)، وفي الخلفية ملحمة راسخة في الوجدان، أضف فوق كل هذا وجود محمود مرسي، وفريد شوقي، وأحمد زكي، ونجلاء فتحي، في كادر سينمائي واحد.
 
ابتعد الفيلم عن الصراع الأصلي بين البطل الشعبي والعم الشرير، وركز على الرموز السياسية والدينية، مثل تكية الدراويش التي يطمع فيها التاجر اليهودي (توفيق الدقن)، وصراع سلطة بين الفتوة بدران (محمود مرسي)، والهلباوي (فريد شوقي)، بينما أحمد زكي غارقًا في قصة رومانسية، تنتهي بزواج البطل والبطلة، دون أن يقدم مشهدًا واحدًا يستنفر الجموع ضد العم الشرير، على العكس قدم الفيلم نماذج أكثر شرًا، جعلت من شخصية الشرير بدران قاتل أخيه نادمًا طالبًا الغفران.
SElyateem
في 2008، يقدم يسري الجندي مسلسل "نسيم الروح" من بطولة مصطفى شعبان وأيمن زيدان، في تلك المرة يحاول التطرق إلى ظاهرة الانتماء، عندما قدم شخصية سعد اليتيم، الذي يحاول الباشا التركي أن يخرج الروح المصرية من داخلة، وغرس قيم أوربية، لكن الفطرة تجعل الشاب يميل إلى الحارة المجاورة للقصر الذي نشأ فيه، ومع الوقت يعرف حقيقة مقتل أبيه، ويقرر الانتقام من الباشا ومعاونيه.
 
بعيدًا عن الدراما المصرية، نجد أن السينما الهندية قدمت مئات الأفلام التي تتشابه ملامحها مع ملحمة سعد اليتيم، نمط الانتقام هو السائد لأفلامهم، وهو الأمر الذي يجد إقبالا عندهم، وفي ذات الوقت عند المصريين، لدرجة أن الفيلم الهندي كان يشكل خطرًا على السينما المصرية، ما دفع رقابة المصنفات الفنية في التسعينات، بإعادة تنظيم عرض الفيلم الهندي لخمس أسابيع فقط في مصر، لكن أصحاب دور العرض ومستوردي الأفلام كان يتحايلون على هذا القرار، لمعرفتهم بالقاعدة العريضة المضمونة لأفلام أميتاب باتشان في مصر.
maxresdefault
في فيلم النجم أميتاب باتشان، "جانجا وجامونا وساراسواتي"، المعروف شعبيًا عند المصريين باسم "صراع الجبابرة"، قدم ملحمة مشابهة لسعد اليتيم، تمثلت في السائق الشاب الذي يقتل عمه الشرير الأصلع بعد معارك ومواجهات دموية، انتقامًا لمقتل أبيه، تفاصيل الحدوتة تثبت أن سيرة سعد اليتيم، ليست راسخة في الوجدان الشعبي المصري فقط، ولها نسخ مشابهة في حضارات أخرى، مع اختلاف المسميات والأماكن، تأخذ الشخوص نفس المسار، وتسلك نفس الصراعات التي تصل في النهاية للمواجهة الأخيرة بين الخير والشر.