التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 09:21 م , بتوقيت القاهرة

الأم عند نجيب محفوظ متسلطة في السراب وصبورة وقوية في الثلاثية

أمينة نجيب محفوظ
أمينة نجيب محفوظ

كانت أمي وحياتي شيئا واحدا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها. لا أكاد أذكر وجها من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون فهي دائما أبدا وراء آمالي وأحلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور.

غلاف رواية السراب لنجيب محفوظ
غلاف رواية السراب لنجيب محفوظ

 

تنتمي السطور السابقة إلى أحد أهم أعمال الروائي الكبير الراحل أديب نوبل نجيب محفوظ، المعنونة بالسراب، وهي الرواية التي تدور حبكتها الرئيسية حول تأثير الأم في حياة بطل الرواية، كامل، الذي يكبر عن قرب من هذه الأم، بعد انفصالها عن أبيه، واختياره أن يظل إلى جوارها، فيتربى في كنفها مدللا، لا يكاد ينجح في أي مشروع من مشروعات حياته، سواء التعليم، أو الحب.

في السراب التي اختارها اليوم ضمن أعمال عديدة لنجيب محفوظ جسد فيها نموذج الأم، بمناسبة عيد الأم، كتب محفوظ عن تلك الرابطة الهائلة التي تربط الأبناء بأمهاتهم، وأثر هذه الرابطة على حياة الأبناء، وعلى الرغم أن الأم ظهرت بتنويعات مختلفة في أدب محفوظ وأعماله العديدة، إلا أن محفوظ في هذه الرواية تغلغل في نفسية الأم، التي تتحول علاقتها بابنها إلى علاقة ملكية كاملة، فتتسبب غيرتها على ابنها من تعطل مشروعات زواجه، بل تغار عليه، لدرجة أنها ترفض أن يتمتع بمراهقته، ونزواتها، مما يلقي بظلاله السلبية على حياة كامل، ويؤثر على علاقاته بالنساء اللاتي يدخلن حياته، سواء تلك التي تزوجها، أو الغانية التي يلتقيها في الشارع بعد ذلك.

لم يتعامل محفوظ بمنظور واحد في أعماله الروائية مع الأم، فزينب في السراب، غير أمينة في الثلاثية، أمينة لم تكن مجرد أيقونة للأم في ثلاثية محفوظ الرائعة، بل كانت أيقونة للزوجة، والمرأة المصرية في الأربعينيات، جسدت انكسار هذه المرأة أمام زوجها اللاهي، العابث خارج المنزل مع الغانيات، وصبرها على أفعاله، وحمايتها لأسرتها من أن تنجرف سفينة هذه الأسرة إلى مرافئ مكروهة.

غلاف رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ
غلاف رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ

 

وفي بداية ونهاية هناك أم أخرى، تواجه مع أبنائها صدمة الفقد الذي تتعرض له وأبنائها جراء وفاة زوجها، يقول محفوظ في إحدى فصول الرواية الأولى: أما الأم فعلى حزنها الشديد، دارت برأسها خواطر أخرى. كان يداخلها نحو أختها شعور بعدم الارتياح. ولم تستطع أن تنسى أنها كانت تنغص عليها حياتها، وأنها كان يحلو لها كثير أن تقارن بين حظيهما، فتقول: إن أختها تزوجت من موظف، أما زوجها هي فعامل في محلج قطن.

يشير محفوظ دائما إلى هذه الشخصية المحورية في عمله "بداية ونهاية" بلقبها، وليس باسم معين كما في عمليه "السراب" زينب، وفي الثلاثية – أمينة، فيقول دائما في بداية ونهاية: واجتمع الأبناء حول أمهم، وهم يشعرون بأنه آن لهم أن يسمعوا لها، وكانت الأم تعلم بأنه ينبغي لها أن تتكلم.

هكذا يضفي محفوظ طابعا أسطوريا على الأم في "بداية ونهاية" ويضعها في دائرة المركز، التي يجتمع حولها الأبناء، ويعرفها بالألف واللام، لأنها مركز الرواية ونواتها الرئيسية، ويجعل صوتها هو المهيمن على هذا المشهد المفجع بينما تزف إليهم خبر إفلاسهم ومعاناتهم المقبلة، ومن بين ما تقوله لهم من أنباء صعبة: لن يكون في الإمكان إعطاؤكما أي مصروف يومي، ومن حسن الحظ أن المصروف ينفق عادة في وجوه تافهة.

وفي موضع آخر من نفس المشهد المحوري في بداية الرواية، نلحظ كيف يركز محفوظ على ألا يذكر الأم وهي تجادل أبنائها على ضرورة تناول الوجبات المدرسية، إلا معرفا بالألف واللام، كأنه يمنحها صولجان بأداة التعريف، يقول: فقالت الأم بامتعاض: من يدري فلعله لن يتاح للبيت الطعام الذي تحب.

ثم وهي تخاطب ابنها الأكبر، يصف محفوظ ببراعة مشاعرها تجاهه.." هذا أكبر الأبناء، أول من أيقظ أمومتها، الحبيب الأول. لكنه دليل ملموس على أن الأمومة قد تتأثر بأمور لا تمت للفطرة بسبب.

يمضي محفوظ في تحليل العلاقة بين الطرفين، الأم، والابن، يتدخل في النص بصوته، فيدلي بدلوه في رؤيته الفلسفية لهذه العلاقة بين الأبناء وأمهم ويحللها في صوت يتسلل إلى النص، ولا نشعر أنه صوت الروائي، بقدر ما نشعر أنه صوت الأم ولا غرابة أن ينجح محفوظ في ذلك بكل احترافية.

نتذكر أما ثالثا جسدها محفوظ في روايته المهمة " خان الخليلي"، الأم الطيبة التي تفجع في مرض ابنها، وتطالب ابنها الأكبر "أحمد عاكف" بطلبات الأسرة، هذه الأم أيضا هي نموذج للأم المصرية الخالصة، الوحيدة بين رجال أسرتها، زوجها، وولديها، وهذه من التفاصيل التي لا تفوت أديبنا الكبير ويتوقف عندها، ففي الليلة الأولى لانتقالهم إلى الحسين، تعمل الأم وحدها في ترتيب البيت، وتقول: الله يعلم أني لم أذق للراحة طعما في يومي هذا ، فيا لشقاء الأم التي لم تنجب أنثى تستعين بها عند الحاجة، ولقد هربت أنت إلى وزارتك، وقبع أبوك في حجرته كعادته، وسألني منذ هنيهة عما هيأت لكم من طعام، كأنما يسأل ساحرة تقدر على كل شيء، ولكن من حسن الحظ أن حينا الجديد غني بمأكولاته السوقية.

خان الخليلي
خان الخليلي

 

اقرأ أيضا:

من يملك نجيب محفوظ ؟

هدايا عيد الأم.. 5 مقترحات اقتصادية لهدية ست الحبايب