بديع خيري.. عاشق الزجل بياع الورد
كتب- محب جميل:
في وسط الكوشة يصدح عزيز عثمان: "بطلوا ده واسمعوا ده، الغراب يا وقعة سودة جوزوه أحلى يمامة". بالتأكيد كانت تلك الكلمات عفويةً بالقدر الذي يجعل عزيز عثمان يرفع حاجبيّه للكاميرا ويمدّ برأسه للأمام تناغمًا مع سلاسة الكلام المكتوب والجمل الموسيقية المتناسقة.
بالتأكيد لا يُمكن تصور تلك الكلمات سوى من بديع خيري، موليير العرب، المولود في حي المغربلين في القاهرة في 18 أغسطس عام 1893.
صاحب اليمامة البيضاء وجد ضالته مع سيد درويش النهر الذي يجري بلا مصب، تأخذ منه ما تريد ولا ينقطع جريانه. فكان أوبريت "العشرة الطيبة" التي اقتبسها محمد تيمور من مسرحية "صاحب اللحية الزرقاء" للكاتب الفرنسي شارل بيرو.
أراد بديع خيري أن يعطي المسرحيات بعدا آخر، فحاول التوفيق بين الأشياء اللامنطقية كأن يحب شاب سيدتين في عمر زوز شكيب وميمي شكيب أو يتخلل الحوار المسرحي فقرة أراجوز مباغتة. عشقه للتمثل دفعه لتكوين فرقته المسرحية مع نجيب الريحاني بالجهود الذاتية. ولأن الحياة "قسمة ونصيب" لمع نجم بديع خيري ككاتب مسرحي وشاعر بدلاً من أن يكون ممثلاً.
كتب خيري نحو 90% من تراث سيد درويش الغنائي، فكانت "قوم يا مصري"، "الحلوة دي" و"ع النسوان يا سلام سلم" التي ينتقدُ فيها استهتار الأبناء، وتقول كلماتها: "إن شاء الله محدش حوّش دي الفلوس في رجلينا/بنغني ونرقص بولكا ومزوركا ونسكر طينة/نلعب بوكر ونبقشش دي الجنيهات ملو إيدينا/ إن راحت أطيان بابا البركة في صيغة نينة".
بديع خيري أيضا "ثورجي" بامتياز، لكن ثورته تكمن في بساطته، في حبه للمنتج المصري. "رخيصة أوي القلل القناوي/قرب حدانا وخدلك قلتين/خسارة قرشك وحياة ولادك/ع اللي ماهواش من طين بلادك".
وعندما مات سيد درويش، رثاه بقصيدة بديعة:
بديع خيري ربط بحرفيّة بين الرزق وطلوع النهار، فالفجرية هي مفتاح الفرج عند بديع خيري. ومع عود الشيخ سيد تكتمل الحكاية. "الحلوة دي قامت تعجن في البدرية/ والدين بيدن كوكو في الفجرية/ يلا بنا على باب الله يا صنايعية/ يجعل صباحك صباح الخير يا اسطى عطية". ويأخذنا في مقطع آخر "ماتيالله بينا انت وياه/ ونستعين ع الشقا بالله/ واهو اللى فيه القسمه طلناه/ واللى مايجيش انشا لله ما جاء".
يعرف بديع خيري أنه شاعر بالفطرة، فالشعر عنده هو روح المكان. يقول عن نفسه: "كنت من كتاب الشعر اللاّمعين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكانت هذه الهواية الجميلة هي الهواية الوحيدة المتملكة على زمام نفسي ومشاعري، فقد فكرت في إرسال بعض أشعاري إلى الجرائد التي تصدر في القاهرة..ويبدو أن هذه الأشعار التي أرسلتها إلى الجرائد قد لاقت منهم الترحيب..فلم يبخلوا بنشر بعضها..وبدأت أشعاري تنشر على صفحات الأهرام والمقطم والأفكار والمؤيد".
بجوار الشعر، أراد بديع خيري أن يضع الزجل في محيطٍ مميَّز، فها هم الزجَّالون يثورون عليه ويدّعون أنه يعبثُ بالقيم الزجلية. كانت تلك الفترة تجمع النجوم أمثال: شعبان عوني، محمد عبدالنبي، عزت صقر، وإبراهيم شدودي. أدت ظروف الحياة السياسية في الدولة المصرية وما بها من صعاب ومشقات إلى روح الفكاهة والدعابة، فارتفع شأن المنولوج. كتب بديع أول منولوج له عام 1918 للفنانة فاطمة قدري.
كتب للمهمشين والفقراء من أصحاب الحرف البسيطة أمثال الجرسونات، السيَّاس، وبياعة الورد. وبخفة ظلّ عالية تركنا مع "شحات الغرام" محمد فوزي، قبل أن ينتقل إلى "عيني بترِّف" مع ليلى مراد في غزل البنات.
الكتابة تعني استنزاف الروح، ومن الكتابة تبدأ حكايات. بديع خيري أصدر في 23 ديسمبر عام 1925 مجلة "ألف صنف" وقد نشرت هذه المجلة الثقافية الاجتماعية أزجالاً لكبار زجالي تلك الفترة. بجانب هذه المجلة أصدر بديع خيري مجلة "الغول" السياسية وجريدة "النهاردة" وهي جريدة يومية هدفها الجهاد من أجل الدستور. قبل أن يصدر جريدة "الاستقلال" من أجل البناء والعمل والتجديد عام 1937.
(يا ورد على فل وياسمين الله عليك يا تمر حنة/ ياللي عاوج لي طربوشك فوق الجبين على سنجة عشرة)
بهذه البساطة يؤكد بديع خيري جمال الشعر، بهذه الروح يحفز ما في الداخل من موسيقى ومصرية. أحد معاصريه قال إنه "اختار أسلوبا ليتكلم به إلى الفلاح المصري غير المتعلم وإلى طالب المدارس الابتدائية وإلى كبار الأدمغة والرؤوس. خاطب الجميع بلغة تناسبهم جميعا، تحدث إلى الكل بلغة واحدة مشتركة استفاد منها الكل".
على الرغم من كل هذا، لم تكن حياته بهذه السعادة المطلقة، فقد كان بديع خيري مريضا بالسكري، واضطر إلى بتر أصابع قدمه العشرة، وعاش على كرسي متحرك بقية حياته. شعر خيري بانقطاع علاقته بالعمل الفني حتى توفي في عام 1966.