التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:29 م , بتوقيت القاهرة

الضباب

"لو بتحبني لازم تعمل كذا وكذا".
"لو عملت كذا أنا هخاصمك".
"إنت هتروح النار علشان ما خلصتش أكلك".


تبدو الثلاث جمل السابقة بريئة، فمعظمنا يستخدمها، أو يستخدم صيغًا مشابهة في التعامل اليومي مع من يحب (سواء زوج/ زوجة/ حبيب/ حبيبة/ أب/ ابن/ أم/ بنت/ أخ/ أخت، صديق/ صديقة.. إلخ).


لكن الثلاث جمل البريئة هي في الحقيقة نموذج للابتزاز أو الاستغلال أو الإيذاء العاطفي Emotional Abuse. في الثلاثة مواقف قرر مستخدم الجملة أن يدفع الطرف الآخر لفعل شيء لا يرغب في فعله عن طريق إساءة استخدام العلاقة الحميمة القائمة بينهما. في الثلاثة مواقف كان التلاعب النفسي عن طريق استخدام منظومة من التهديدات وأنواع مختلفة من العقاب بغرض أن يسيطر شخص على سلوك شخص آخر.


الثلاث جمل تحمل طلبًا ما لا يريد المطلوب منه القيام به. فيقوم الطالب بالتهديد (سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة) أن عدم الانصياع للتهديد له تبعات (سواء مُعلنة صراحة أو مفهومة من سياق التهديد). فيقوم المطلوب منه بالقيام بالطلب. يأخذ الابتزاز (الإيذاء) العاطفي أشكالا كثيرة، مثال على ذلك محاولات السيطرة (الغيرة، المراقبة المالية .. إلخ) والتقليل من الشأن (المعاملة كطفل غير واع)، والنقد والسخرية (محاولات تصحيح السلوك  خاصة أمام الغير)، اللوم وعدم تحمل المسؤولية (أنت أو أي شخص آخر هو السبب في أي مشكلة وليس الشخص المستغِل).


يشعر ضحايا الابتزاز العاطفي بصورة مستمرة أنهم أشخاص غير كاملين (أنا غير كاف لاستحقاق الحب). كما يشعرون بالتهديد المستمر بأن العلاقة قد تنتهي . ولا يستطيعون الجزم ما إذا كانت مثل تلك التصرفات (النقد والسخرية والغيرة.. إلخ) نوعًا من الحب. فعلى عكس الإيذاء الجسدي، الابتزاز (الإيذاء) العاطفي غير سهل التعريف وقد يتعرض له البعض دون أن يعرفوا أنهم ضحية للابتزاز. لأن العلاقات من هذا النوع يغيم عليها ضباب الخوف والالتزام والشعور بالذنب (Fear, Obligation, Guilt F.O.G).


الخوف سواء من العقاب الصريح (هتروح النار / هخاصمك) أو غير الصريح (الامتناع عن الفعل يعني عدم الحب). والالتزام تجاه العلاقة (سواء علاقة حب أو علاقة أمومة .. إلخ). والشعور بالذنب نتيجة عدم إرضاء الطرف الآخر (الحبيب/ الأم / الرب).


وكما يؤدي الضباب للحوادث على الطرق يؤدي ضباب الابتزاز العاطفي للحوادث في العلاقات. فالكثيرون قد يقللون من شأن تلك التصرفات ويعتبرونها جزءًا من التعبير الطبيعي عن الحب. كما قد يذهب البعض لإنكار أهمية الإيذاء النفسي. فالكل يضع الكثير من الأهمية على الإيذاء الجسدي في حين أن الإيذاء النفسي أعمق تأثيرًا ولا يترك علامات ظاهرة تدل عليه.


فالإيذاء النفسي يؤدي لإصابات نفسية Psychological Traumas  مثل الاكتئاب واضطرابات القلق واضطراب اكتئاب ما بعد الصدمات PTSD. لا يتوقف الأثر السلبي لهذه الإصابات النفسية على جودة معيشة الفرد وحسب، ولكن يمتد لتهديد هذه المعيشة سواء إذا تطورت الأعراض النفسية لتؤثر على الجسد أن الوصول بالشخص للانتحار.


لكن الخروج من الضباب ليس سهلًا! الضباب دائرة مفرغة وأول خطوات كسرها هو الاستعداد للتضحية بالعلاقة. فالشخص الساعي للسيطرة على مشاعر شخص آخر يعلم جيدًا أن هذا الشخص يحتاج لهذه العلاقة ولا يستطيع أن يرفض أي طلب خوفًا من أن يهدد رفضه العلاقة. فإذا قرر الشخص أن يكسر حلقة الابتزاز المفرغة عليه أولًا ألا يرضخ للتهديد والاستعداد لأن يخسر العلاقة نتيجة لذلك.


التحرر من الحاجة للعلاقة سيمكن الشخص من رسم حدود واضحة للتعامل ومن ثم يستطيع بوعي التفرقة ما بين التعاملات "الطبيعية" ومحاولات التلاعب النفسي من أجل السيطرة على تصرفاته (الابتزاز العاطفي).


هذه الحدود ستذكر الشخص (ضحية الابتزاز العاطفي) بحقيقة يخفيها الضباب، من يحبك لن يؤذيك أبدًا ومن يؤذيك لا يعرف من الحب إلا حب الذات.. وذاتك بالحب أولى!