ألف مشهد ومشهد (24)
"خرداوتي، لا له في التور ولا في الطحين، يموت؛ علشان نبوية اتجوزت عليش"
الجملة دي جت على لسان طرزان (صلاح جاهين)، لما سعيد مهران راح يقتل نبوية وعليش، بس هم كانوا عزلوا، وجه ساكن جديد بدالهم اسمه "شعبان حسين"، سكن مكانهم، وخد الرصاصة مكانهم، ومات مكانهم. سعيد لما قرا اسم الراجل في الجرنان، غضب أكتر، وقال: مين شعبان حسين ده؟ أنا ما أعرفوش، فـ كان رد طرزان الخالد، المذكور أعلاه.
الرد ده، الجملة دي، تلخيص لـ واحد من أهم ملامح عالم نجيب محفوظ: "القدرية"، معظم أبطال محفوظ في غالبية أفلامه ورواياته عايزين يهربوا من أقدارهم ومصايرهم، اللي غالبا مرتبطة بـ طبقتهم ووضعهم الاجتماعي، وغالبا بـ يفشلوا.
حميدة في "زقاق المدق"، حسنين في "بداية ونهاية"، محجوب عبد الدايم في "القاهرة الجديدة"، عيسى الدباغ في "السمان والخريف"، وسعيد مهران في "اللص والكلاب" وغيرهم.
بس القدرية هنا مش قدرية دينية، بـ معنى إنه لا يصاحبها تعظيم لـ هذا القدر، ودعوة لـ الاستسلام قدامه، بـ قدر ما هو إحساس بـ العبثية المعجونة بـ مية المرارة. هنا "سخرية القدر" حرفية، ومش سخرية من النوع اللي تضحك له، سخرية من النوع اللي تبكي له.
تخيل إن "شعبان حسين" ده دفع خلو رجل لـ عليش سدرة علشان يموت مكانه، حاجة تقهر.
والعبثية في أبسط تعريفاتها هي المسافة بين نقطتين: الأولى، "رغبة" الإنسان في إيجاد معنى لـ حياته ولـ الكون، وإيجاد غاية من ورا كل ده، والتانية، "قدرة" الإنسان على تحقيق ده، أو إذا شئت: "عدم قدرته" على كده.
فيه ناس كتير بـ تدرك المسافة دي، وتحترمها، زي نور وطرزان، ورؤوف علوان ونبوية وعليش وحسب الله، وناس قليلين بـ تعاند، وتحاول، وتضيع عمرها في قطع المسافة دي، اللي تبان صغيرة، وهي أبعد من السما لـ الأرض.
الفرق بين سعيد مهران ونور، إن نور عايزة تستسلم للقدر ده، على طريقة: "إن جالك الغصب خده بـ الرضا" ودي الطريقة المصرية الصميمة في التعامل مع الواقع، أبطال العالم في التكيف والاعتياد، هي تنازلت عن كل ما تملك، مش بس أعز ما تملك، وبـ تنام مع ناس مش طايقاهم، ومع ذلك عندها مشاكل في دفع إيجار شقتها، وراضية، ومش عايزة أكتر من إنها تعيش في ضل راجل.
لكن سعيد من الأول ما استسلمش لـ فكرة إنه شغال في بيت الطلبة، بـ يحب خدامة عند واحدة تركية، وهكذا كانت حياته عبارة عن سلسلة من التحديات لـ قوى أكبر منه، والنطح في الصخر، وكل ما يتصور إنه كده هرب من قدره، يكتشف إنه بـ يتوغل فيه أكتر، زي ما يكون فار دخل متاهة، كل الطرق فيها تودي لـ المصيدة.
لما حصلت مواجهة بين سعيد ونور، قال لها إنه مش هـ يقدر يفهمها، فـ ردت عليه: بس تقدر تعذبني. هو عايز "يفهمها"، وهي مش عايزة "تفهم"، هي فاهمة كفاية، والعقل عاجز، هي عايزاه "يسعدها".
وكأن معركة الهروب من القدر هي صراع بين العقل والمشاعر، وزي ما قال دكتور محمد أبو الوفا، الطبيب المصري المقيم في إيطاليا، إننا سادة عقولنا، وعبيد مشاعرنا، نور عقلها وافق مشاعرها، أو هي نجحت في التوفيق بينهم بـ طريقة ما، إنما سعيد فضل واقع في الصراع ده، فـ استمر يحاول ويحاول، بس قد إيه مُر إنك تكتشف في الآخر إن محاولات هروبك من قدرك هي في الآخر جزء من القدر ده.
فعلا، يا لـ "سخرية القدر"