التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 04:44 م , بتوقيت القاهرة

"سينا".. النموذج الأبرز للفيلم التسجيلي الرياضي

الرياضة دائما مصدر لا ينضب للأفلام التسجيلية وللسينما بشكل عام، وذلك لطبيعة خصائص التنافس الرياضي ذاته، والتي تجعله مناسبا تماما للنقل إلى الشاشة. فالرياضة هي تنافس بين أشخاص، عادة من الشباب في مقتبل العمر والحياة، يتصارعون على هدف واضح هو الفوز بالمباراة أو الكأس أو البطولة (صراع خارجي)، بما يرتبط دوما بتجاوز أزمات وعوائق بدنية ونفسية (صراع داخلي)، الأمر الذي يجعل أي تنافس رياضي معتاد صالحا لأن يصير عملا سينمائيا جذابا، ويجعل المنافسات الرياضية حاضنة دائمة لمئات الحكايات القابل للتسجيل والتوثيق.


من بين هذه الصراعات الرياضية، لا يوجد ما هو أكثر درامية من بطل عالم ورمز لدولة يلقى مصرعه داخل المنافسة، وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين. لذلك فكان من الطبيعي أن يصير فيلم "سينا" أو "Senna" للمخرج البريطاني هندي الأصل عاصف كاباديا، واحدا من أهم الأفلام التسجيلية في القرن الجديد. الفيلم عُرض للمرة الأولى في أكتوبر 2010 على هامش سباق سوزوكا في اليابان، أحد مراحل سباقات السيارات الأشهر في العالم "فورمولا وان"، قبل أن يفتتح عرضه تجاريا الشهر التالي في البرازيل مسقط رأس أيرتون سينا الذي يسجل الفيلم حياته القصيرة التي نال فيها لقب الفورمولا وان ثلاث مرات. ونال عددا من الجوائز أهمها جائزتي بافتا BAFTA لأحسن فيلم تسجيلي وأحسن مونتاج في بريطانيا، بالإضافة إلى جائزة الجمهور من مهرجان صن دانس 2011.



من هو سينا؟
أيرتون سينا ابن لعائلة برازيلية شديدة الثراء، لديها من المال ما يكفي لدعم هواية ابن الأسرة الوحيد وإرساله إلى أوروبا لدخول عالم السيارات. لكن سينا لم يكن فقط شابا ثريا يريد دخول اللعبة بأموال والده، لكنه كان موهوبا، مجنونا بالسيارات والسرعة والرغبة في الانتصار برياضة الفارق فيها بين المجد والموت مجرد كسر من الثانية. بسرعة شديدة تنقل أيرتون سينا بين فرق الفورمولا وان، حتى أصبح السائق الرئيسي لفريق مكلارين الشهير، ويتوج بلقب بطل العالم ثلاث مرات أعوام 1988 و1990 و1991، أما لقب عام 1989، فقد خسره بقرار إداري جائر بعد أن ربحه داخل مضمار السباق. بعدها انتقل إلى فريق ويليامز الذي لم يكمل موسمه الأول معه، عندما تعرض لحادث داخل مضمار سان مارينو، ليلقى مصرعه في الأول من مايو 1994.



صور موثقة وبناء درامي أساسه التناقض
أذكى قرارات المخرج عاصف كاباديا كان الاعتماد على الصور الأرشيفية بالكامل لصناعة فيلمه، القرار الذي ساعد عليه بالتأكيد ثراء أيرتون سينا وشهرته وطبيعة مهنته، وكلها أسباب جعلت كل لحظات حياته تقريبا موثقة بالفيديو، ليستعين المخرج بلقطات لسينا في كل مكان، في المنزل وخلال الإجازات وفي البرامج التلفزيونية، وبالطبع داخل السباق وكواليسه، مع تدعيم الصور أحياتا بشهادات صوتية فقط، لأعضاء أسرة سينا وبعض المقربين منه. وهي شهادات تم توظيفها بعناية وفي اللحظات المناسبة، بحيث تبتعد بالفيلم تماما عن شكل التقارير التلفزيونية المعروفة بمصطلح الرؤوس المتكلمة Talking Heads. أصوات المقربين لسينا تمتزج في الفيلم بصوته نفسه، لتنسج مع هدير المحركات وصياح الجماهير واحتفاء البرامج التلفزيونية، شريط صوت مليئ بالأدرنالين، الذي أودى بصاحبه في النهاية إلى قدره، بمساعدة سياسات التسابق غير الشريفة.



سياسات التسابق هنا متهم رئيسي يوجه له المخرج أصابع الاتهام في مقتل بطل العالم، الذي يفتتح الفيلم بحديث يروي فيه عن سباق بدائي خاضه قبل الاحتراف في فورمولا وان، يصفه بأنه أمتع سباق خاضه، لأن الفوز فيه كان يتعلق فقط بالسرعة، وليس بالسياسة التي تحرك كل شيء في عالم سباقات المحترفين. السياسة يسيطر عليها هنا الفرنسي جان ماري باليستر، رئيس اتحاد اللعبة، ومواطن السائق آلان بروست، خصم سينا العتيد ومنافسه الأساسي في كل مواسمه، والذي انتزع لقب بطل العالم 1989 من البرازيلي بقرار من اتحاد بروست، شكل أول تناقض إداري من تناقضين يظهرهما الفيلم بأنهما السبب فيما حدث لسينا.


قرار حرمان سينا الفائز في المضمار من لقبه ومنحه لمنافسه الذي خرج مبكرا من السباق بسبب تصادم سيارتيهما، اعتمد على خطأ منطقي في قواعد اللعبة، كان يحتم على السائق الذي يدخل للمرفأ الجانبي لصيانة سيارته أن يستدير ويعود في اتجاه معاكس لمسار السباق كي يواصل طريقه، الأمر الذي لم يعرفه سينا وسار قدما طبقا للمنطق، فكلفه حرمانه من لقب اعتقد الجميع أنه صاحبه. المشكلة ليست في القاعدة التي ربما استغلها بروست المعروف بلقب "البروفيسور" لعلمه باللوائح واستخدامه القواعد الحسابية في التخطيط للمنافسة، ولكن في أن نفس القاعدة التي انتزعت من سينا لقبه وأوقفته عن التسابق لستة أشهر، تم إلغاءها بسهولة بالغة وبتصويت بدائي في الموسم التالي، اعترافا من الإتحاد بأنها كانت بالأساس خاطئة وغير منطقية.


تناقض ثان ممين
الأمر ليس مجرد لقب ذهب لمن لا يستحقه، لكن حدث رسخ غضبا دفينا داخل سينا على السياسات الحاكمة للعبة، غضب يساوي في عالم السيارات قرارا خاطئا قد يودي بحياة صاحبه. نفس الشعور الذي تزايد في موسم سينا الأخير، والذي انتقل فيه لفريق ويليامز رينو، الفريق الذي كان قد استخدم في الموسم الماضي سيارة معدلة إلكترونيا بحيث تحفظ توازنها في المنحنيات بشكل أوتوماتيكي. تقنية اعترض عليها سينا عندما ظهرت باعتبارها تقتل روح اللعبة، واستخدمها بروست لينتصر إلكترونيا على البرازيلي وينال لقب أخير للعالم أعلن بعده الاعتزال.



أيرتون سينا ترك فريق مكلارين واتجه لويليامز رينو ليستخدم السيارة الجديدة، طالما أصر الاتحاد على وجودها رغم أنها رغم وصفه "تقتل روح اللعبة وتحول مهمة السائق لمجرد الضغط على دواسة الوقود"، وإذا بالاتحاد الذي دافع عن السيارة التي انتصر بها بروست، يغير رأيه مجددا ويصدر قرارا بمنع استخدام التقنيات الإلكترونية، ليجد سينا نفسه متورطا في سيارة لم تصمم من البداية لتحفظ توازنها بالطرق التقليدية، شاعرا بالظلم مجددا من قبل اتحاد اللعبة، محتاجا في كل مرة أن يشتكي من عدم اتزان السيارة ليعتقد الجميع أن شكواه سببها النتائج السيئة التي يحققها، قبل أن تصدمهم الحقيقة يوم وفاته بسبب خلل في السيارة، خلل أدى لحادث بسيط كان من الممكن أن يخرج منه سالما، لكن القدر جعل رأسه تصطدم بجزء معدني من أحد الإعلانات فيقتله على الفور، ليقول الطبيب في إحدى الشهادات بنهاية الفيلم، أن عدة بوصات في ارتفاع الإعلان كانت كافية ليخرج سينا من السيارة على قدميه.


حفاوة نقدية
الفيلم إذن يستخدم بناءه المثالي كفيلم وثائقي ـ من حيث اعتماده بالكامل على لقطات توثيقية مصورة من قبل ـ ليقدم صورة لحياة موهبة اشتعلت وانطفأت سريعا، ويشير بأصابع الاتهام إلى إدارة تحركها الرغبات السياسية والمالية، دون أن تعي أن تبعات الظلم قد تساوي الموت. أسلوب بناء الفيلم التوثيقي نال إعجاب غالبية النقاد، حتى بلغت نسبة المقالات المشيدة به 92% (108 مقالات إيجابية من ضمن 117 مقالا كتب عن الفيلم طبقا لموقع طماطم فاسدة Rotten Tomatoes).


الناقد أنطوني لين كتب في صحيفة النيويوركر أن الفيلم "منزوع منه التعليق الصوتي، الرؤوس المتكلمة، وكل شيء آخر يمكن أن يهدد بإبطاء إيقاعه". وفي شيكاغو تريبيون كتب مايكل فيليبس بتاريخ 18 أغسطس 2011 واصفا الفيلم بأنه "يتحرك مثل الأفلام الروائية، ثري ومليئ بالحياة، وبه من الحراك ما يجعل شخصا مثلي يجهل كل شيء عن الفورمولا وان، يتابع الحكاية كأي مشجع مخلص". أما جو ويليامز من صحيفة سان لويس بوست فكان أكثر حماسا، ووصف "سينا" بأنه "ببساطة أفضل فيلم رياضي شاهدته على الإطلاق".


الحماس الشديد للفيلم مستحق، فإذا كان المخرج استفاد من طبيعة الرياضة كمادة خام صالحة لصياغة فيلم سينمائي جذاب، فإنه تعامل مع هذه المادة، ومع حكايته المؤثرة، بحكمة واضحة، سواء على مستوى الصنعة واختيار أدوات السرد البصرية والصوتية، أو على مستوى النبرة ووجهة النظر، التي يقدمها بوضوح ومستعينا بالأدلة المسجلة بالصوت والصورة. وهذه باختصار هي الأشياء الذي لو اجتمعت تكون النتيجة دائما فيلما تسجيليا متميزا: موضوع جذاب، سرد محكم، ووجهة نظر شريفة وواضحة.