التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 04:12 م , بتوقيت القاهرة

"فينوس" الحب والجنس على مسارح لبنان

عاصفة من الجدل انطلقت بمجرد ظهور الملصق الدعائي الخاص بمسرحية "فينوس" للمخرج جاك مارون، قبيل عرض المسرحية الذي بدأ يوم العاشر من مارس الماضي في العاصمة اللبنانية بيروت. الجدل وصلت أصداؤه إلى شبكات التواصل الاجتماعي المصرية، وتحدث الكثيرون عن البوستر الذي يظهر بطلة المسرحية ريتا حايك عارية تماما، لا ترتدي إلا صوفا يستر أجزاءها الحميمة، بينما يجلس بطل العرض بديع أبي شقرة تحت أقدامها في استسلام ولذة، يحيط بعنقه طوق جلدي يعلم الجميع دلالاته الجنسية.



ما حدث في الحسابات المصرية لا يعدو قطرة في بحر الجدل الذي أثاره الملصق في لبنان، بين متحمس لجديد جاك مارون الذي أثبت من قبل موهبته وقدرته على المفاجأة، ومتحفظ على طريقة الترويج للعرض المسرحي الجديد، ومعارضين يرون الأمر ابتذالا يحاول استجداء الجماهيرية ولو بخلع بطلة العرض لملابسها.


كأي جدل في عصر الإنترنت سرعان ما انشغل أصحاب الآراء المتباينة في أمر آخر يأخذون منه مواقفهم، واستمرت المسرحية ـ وملصقها ـ بنجاح كبير، ست ليال أسبوعيا على مسرح مونو ثم مسرح بابل، ليصير "فينوس" هو أنجح عرض مسرحي عُرض على المسارح اللبنانية خلال العام الجاري، وهو أمر كبير في بلد لا يزال يمتلك مسرحا مزدهرا يستحيل مقارنة حاله بالوضع المزري الذي يعيشه المسرح المصري.


قبل أيام تمكنت من مشاهدة "فينوس" أثناء تواجدي في بيروت، وعلى مسرح بابل بشارع الحمرا استمتعت بعرض من طراز رفيع. عرض يحمل من الكثافة الدرامية والجرأة والذكاء، ما يجعله يعلق في الذاكرة طويلا، ويظل في ذهنك بعدما تغادر المسرح. هذا بالطبع بخلاف تناسب الملصق التام مع مضمون العمل، والذي يرد بشكل عملي على من قالوا إنه قد صُنع من أجل إغواء الجمهور. وبالمناسبة هدف أي ملصق دعائي هو إغواء الجمهور، والعبرة بالتناسب مع العمل لا أكثر!


حكايات متداخلة


على طريقة الألاعيب اللغوية القديمة يمكن أن نصف العرض بأنه حكاية داخل حكاية من نص مأخوذ عن نص. تابع معي كم التداخل في مستويات صنع المسرحية/سرد أحداثها: عام 1870 يصدر النمساوي ليوبولد فون زاخر مازوخ رواية قصيرة بعنوان "فينوس ترتدي الفراء" بصيغة الجمع "Venus in Furs"، كجزء من سداسية لم تكتمل. فيها يحلم الراوي بالتحدث لآلهة الجمال فينوس عن الحب وهي لا تضع على جسدها سوى الفراء، فينصحه صديق بقراءة مخطوطة "مذكرات رجل فائق الشهوانية"، ليعرف عن الطبيب كوشيمسكي الذي يقع في غرام امرأة تدعى فاندا، ويعرض عليها أن يصير خادما لها. الرواية التي كانت مع كتابات أخرى سببا في اشتقاق مصطلح "المازوخية" المعبر عم استلذاذ الألم والتعذيب الجسدي والنفسي، المصطلح الذي رفضه الكاتب النمساوي بشدة، لكنّه ظل متداولا إلى اليوم برغم رفض صاحبه.


الكاتب الأمريكي دافيد آفيز لم يكتف بالمخطوط داخل النص الأصلي، فأعد معالجة مسرحية للرواية بنفس العنوان ولكن بصيغة المفرد "Venus in Fur"، عُرضت على المسرح لأول مرة عام 2010، وعنها صنع المخرج الشهير رومان بولانسكي فيلما بنفس الاسم، وعنها أيضا قام اللبنانيان غابريال يمّين وريتا خوري بصياغة نص "فينوس" ليخرجه جاك مارون.


في "فينوس" اللبنانية يستعد المخرج المسرحي بديع أبو شقرا (يظهر باسمه الحقيقي) لإنهاء يوم فاشل قضاه في البحث عن بطلة لنص كتبه عن رواية مازوخ، مبديا امتعاضه من تواضع مستوى المواهب لدى أشباه الممثلات اللاتي تقدمن إليه. يشع قوة وذكورة وسلطة في الفرز والاختيار، حتى أنه يرفض مقابلة الفتاة فاندا (التي يتشابه اسمها مع اسم بطلة رواية مازوخ) بسبب حضورها متأخرا عن موعد "الكاستينج".



التأخر ليس السبب الوحيد، ولكن انطباع بديع الأول عن فاندا، فهي من جهة ذات لهجة مضغمة تجعلها تبدو كالريفية الساذجة، ومن جهة أخرى ترتدي تحت معطفها ملابس فاضحة طبقا لقناعتها بأنها آتية للتمثيل في عرض بورنو عن السادو-مازوخية BDSM. أي باختصار هي ملخص كل ما أعلن بديع عن كراهيته له في افتتاحية المسرحية. لكن وتحت تأثير الإلحاح يوافق المخرج على أن يجري اختبار سريع للفتاة فتنقلب الآية رأسا على عقب.


فاندا الغامضة


بديع يقع أسيرا لهذه الفتاة التي يتضح أنها ليست ساذجة على الإطلاق، التي تعرف عن مسرحيته وعن فن التمثيل والإخراج أكثر بكثير مما يبدو عليها. والأهم، أنها تعرف عنه هو الكثير، عن حياته وتكوينه النفسي، وعن كون خياره بمعالجة مسرحية مازوخ تعبير واضح عن فيتيشية يحاول إخفاءها، عن رغبة في أن يتحول المخرج صاحب السطوة إلى كوشيمسكي آخر، يُذل ويُهان ليسعد وهو يتحول لخادم تحت أقدام امرأة تعرف عليها للتو.



هذا التأثير المكتسح، الذي يحطم شخصية بديع رغم محاولاته الواهنة للمقاومة، ويجتاح نفوس المشاهدين جميعا بشكل أو بآخر، لم يكن ليأت بهذه القوة لولا الأداء الاستثنائي من بطلة العرض ريتا حايك، التي ظهرت على المسرح ككتلة من الطاقة والدهاء وخفة الظل، والشهوانية المطلقة بالطبع. كانت فينوس معاصرة تستمد قوتها من ذاتها فقط، ومن تأثيرها التنويمي على نفس الرجل الذي أخطأ غلطة عمره ومنحها فرصة للتلاعب به.


التلاعب لا يقتصر على العلاقة بين البطلة وأسيرها، ولكن يمتد لعلاقة المشاهد بالعرض، فبعد أن كانت الأمور خلال نصف العرض الأول واضحة مرتبة، يمكن للجمهور أن يميز فيها بوضوح بين مستويات الواقع والخيال، تأخذ في النصف الثاني للعرض الذي يستمر قرابة الساعتين، منحى أكثر حرية في تبادل الأدوار، الواقع يصبح خيالا، وما كتبه بديع على الورق يشتبك مع حياته الخاصة، وحتى هوية الذكر/الأنثى بينه وبين فاندا، تتبدل هي الأخرى في فورة من فورات الحب.



العرض العاصف الذي لا يسمح بطلاه الوحيدان للمشاهد بأخذ أنفاسه ينتهي نظريا بهيمنة المرأة وخضوع الرجل لها، لكنه في الواقع يضيء في طريقه لتلك النهاية نظرة أوسع للعلاقة المركبة بين الحبيبين، التي يتنقل كل منهما خلال مسارها بين مقعدي السيادة والعبودية، لا يثبت في أحدهما لحظات قبل أن يحن إلى الطرف الآخر من السوط. سيد وعبد، متسلط ومهان، متحكم وخادم، هي أقطاب العلاقات التي يمارسها الجميع دون أن يدركوا طبيعة ما يقومون به. أو كما قال مارتن أ. هاينتس، أحد المتأثرين بزاخر مازوج، في تفسيره لنظرية الجنس "الحب هو لعبة.. هو فقدان للهوية، فإذا لم يصبح لعبة فإنه يموت. وتكمن حياة الحب في أنه لا يمكن أن يتوقف عن الرغبات والطاقات والخطط المشتركة، التي تُضاف إليه".


ملحوظة خارج السياق: هذا عرض يصرخ بقيمة النص المسرحية، والمعالجات الديناميكية التي لا تتوقف بحثا عن صياغة مناسبة للفنان وعصره. عرض يجعلنا نتألم في صمت على حال المسرح المصري التي صارت العروض النادرة التي تلقى فيه نجاحا وإعجابا، هي مجرد تجميع لمواقف واسكتشات متناثرة، حتى أن بعض العروض تبدأ وتنتهي دون أن نعرف اسم شخصية واحدة من شخصياتها!