صلاح عبدالصبور والبحث عن وردة الشعر
"لست شاعرا حزينا، ولكني شاعر متألم. وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم. وهذه الشهوة هي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع عنه نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر بها".
هكذا تحدث صلاح عبدالصبور في كتابه "حياتي في الشعر"، الذي أراد به تقديم شعره إلى الناس دون وسيط. هذا الصوت الفريد المغرّد خارج سرب الالتزام الاجتماعي للشعر، والتنظيرات الرائجة في حينه حول الشعر كسلاح ثوري للحشد والتعبئة.
عبدالصبور الذي دخل مبكرا في معارك أدبية مع الكلاسيكيين وثّقتها صفحات "الأهرام" في بداية ستينيات القرن العشرين، بعد صدور ديوانه الأول "الناس في بلادي"، يصوغ في هذا الكتاب آرائه عن الشعر ومفهومه ووظيفته، يسمو به عن أن يكون مجرد "صنعة"، بل هو رحلة اكتشاف نحو المعنى الناظم للتجربة، أو أن تقتصر وظيفته على التعبير عن الذات والكون، لكن يتجاوزها إلى تكوين تلك الذات وتكوين للكون.
"والتجربة الشعرية عندئذ جديرة بألا تصبح تجربة شخصية، عاشها الشاعر فحسب بحواسه ووجدانه. بل هي تمتد لتصبح تجربة عقلية أيضا، تشتمل محاولة لاتخاذ موقف من الكون والحياة".
"لا يخدم الفنّ المجتمع، ولكنه يخدم الإنسان"
كان عبدالصبور مؤمنا بأن كلّ فنّ أصيل يتوجه في النهاية إلى الإنسان. أيا كان هذا الإنسان، وبصرف النظر عن منبع ذلك الفن. فكلّ ثقافة معينة تحمل في جوهرها عناصر إنسانية مشتركة، تستطيع التلاقي والعبور إلى غيرها من الثقافات الأخرى.
تعامل الشاعر مع الشعر كأداة للمعرفة، التي تهدف لتشكيل عالم أكثر إنسانية وإنقاذ الإنسان، وبالتالي إنقاذ المجتمع.
"هناك ثلاثة طرق من الاجتهاد، تحاول أن تمدَّ بصرها في إنسانية الإنسان، لتساعده على تجاوز ذاته، كي يستطيع بعد ذلك أن يعطي لحياته معنى، هي الدين والفلسفة والفن".
"أعظم الفضائل عندي هي الصدق والحرية والعدالة، وأخبث الرذائل هي الكذب والطغيان والظلم. ذلك لأني أعتقد أن هذه الفضائل هي التي تستطيع تشكيل العالم وتنقيته، وغيابها يعني ببساطة: انهيار العالم. (...) وشعري بوجه عام هو وثيقة تمجيد لهذه القيم، وتنديد بأضدادها، لأن هذه القيم هي قلبي وجرحي وسكيني معا. إنى لا أتألم من أجلها، ولكني أنزف".
ومن مفارقات القدر، أن الشاعر الذي أعلى من قيمة الكلمة، مات بسبب كلمة جارحة ألقاها أحد أصدقائه في إحدى ليالي عام 1981، ليموت فجأة في الخمسين من عمره، تاركا حديقة من الكلمات، التي تمثل ركنا اساسيا في صرح الشعر العربي الحديث.
"لفظ قاتل
لفظ ذو ألف يد تلتف على عنقي
ذو ألف لسان تنفث سما
أو لفظ يرديني... لاقطرة دم
والسكين الألفاظ تشق اللحم
وأظل أسائل ماذا تعني في خاطرك الألفاظ
ألفاظ قاتلة في رفق.. خالصة الكفين من الدم
أشياء تافهة هي عندك... ألفاظ"
البحث عن وردة الصقيع
أبحثُ عنك في ملاءة المساء
أراك كالنجوم عارية
نائمة مبعثرة
مشوقة للوصل والمسامرة
واقتداح الخمر والغناء
وحينما تهتزُ أجفاني
وتفلتين من شباك رؤيتي المنحسرة
تذوين بين الأرض والسماء
ويسقط الإعياء
منهمرا كالمطرة
على هشيم نفسي الذابلة المنكسرة
كأنه الإغماء
أبحث عنك في مقاهي آخر المساء والمطاعم
أراك تجلسين جلسة النداء الباسم
ضاحكة مستبشرة
وعندما تهتز أجفاني
وتفلتين من خيوط الوهم والدعاء
تذوين بين النور والزجاج
ويقفز المقعدُ والمائدة الهباء
ويصبح المكان خاويًا ومعتمًا
كأنه الصحراء
أبحث عنك في العطور القلقة
كأنها ُتطل من نوافذ الثياب
أبحث عنك في الخطى المفارقة
يقودها إلى لاشيء، لا مكان
وهم الانتظار والحضور والغياب
أبحث عنك في معاطف الشتاء إذ ُتلف
وتصبح الأجسام في الظلام
تورية ملفوفة ، أو
نصبا من الرصاص والرخام
وفي الذراعين اللتين تكشفان عن منابت الزغب
حين يـُهل الصيف
ترتجلان الحركات الملغزة
وتعبثان في همود الموت والسموم والرخام
حين يدور العام
أبحث عنك في مفارق الطرق
واقفة، ذاهلة، في لحظة التجلي
منصوبةً كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيفٍ دافئ،
أو ريح صبح ٍِ غائم ٍِ مبللٍ مطير
فترتخي حبالها، حتى تميل في انكشافها
على سواد ظلّي الأسير
ويبتدي لينتهي حوارنا القصير
الفقرات باللون الأحمر من كتاب "حياتي في الشعر"