مقهى ريش.. تاريخ مصر في 100 عام
توفي صباح اليوم السبت، مجدي عبدالملك، صاحب "كافيه ريش"، أحد المقاهي التي صاغ عليها الأدباء والمفكرين تاريخ مصر الثقافي، حيث جمع المقهى أعظم أدباء مصر والعالم العربي.
من أشهر رواد "ريش" الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم، والروائي جمال الغيطاني، والألماني فولكهارد فيندفور، مراسل جورنال ديرشبيجل.
كافيه ريش
تأسس مقهى ريش عام 1908، ويقع بالقرب من ميدان طلعت حرب، وشيدت عائلة يهودية، تسمى "عادا"، العمارة التي يوجد بها المقهى، فيما شيد المقهى رجل الأعمال النمساوي بيرنارد ستينبرج، وباعه عام 1914، إلى رجل الأعمال الفرنسي هنري بير، أحد الرعايا الفرنسيين، الذي أطلق على الكافيه اسم "ريش"، ليتشابه مع أشهر مقاهي باريس.
وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، اشترى تاجر يوناني "ميشيل بوليدس"، المقهى من صاحبه، ووسعه، وظل المقهى ملك له حتى عام 1960، ثم انتقلت ملكيته إلى صاحبه المصري مجدي عبدالملك.
وكان المقهى في ذلك الوقت ممتدا إلى ميدان سليمان باشا "طلعت حرب حاليا"، وبجانبه مسرح، غنى عليه عمالقة الغناء منهم: "صالح عبد الحي، وزكي مراد"، وبجوار المقهى أنشأت صالة مصارعة.
ملتقى الأدباء والمثقفين
كافيه ريش هو تحفة معمارية تختلف عن أي مقهى آخر من حيث الديكور واللوحات الموجودة داخله، ويعد المقهى ملتقى الأدباء والمثقفين أمثال: "نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبدالله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وكامل الشناوي، ومحمود السعدني، وعبدالرحمن الخميسي، وزكريا الحجاوي".
كما كان المقهى ملتقى اللاجئين السوريين والعراقيين واليمنيين وأشهرهم: "الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي، والسوري حسين الحلاق، والشاعر الفلسطيني معين بسيسو، والشاعر السوداني محمد الفيتوري، والسياسي اليمني محمد أحمد نعمان، والأمير علي عبدالكريم".
وكان نجيب محفوظ يعقد ندوات أسبوعية بالمقهى، عصر يوم الجمعة، منذ عام 1963، بعد وقف ندواته في مقهى الأوبرا، ويقدم "ريش" المشاريب والوجبات بتخفيض خاص من باب الحفاوة بضيوف الروائي الكبير.
كافيه ريش والثورات
ذكر كتاب "تاريخ مصر القومي 1914- 1921"، لعبدالرحمن الرافعي، "أن كافيه ريش ملتقى الأفندية من الطبقة الوسطى، كما عرف مقرا يجتمع فيه دعاة الثورة والمتحدثون بشؤونها أو شؤون البلاد العامة، كما كان معقلا لمختلف الطلائع السياسية المتحررة من التعصب الحزبي، يتحاورون ويتسامرون ويتندرون ويتشاغبون، لكنهم غالبا ما يتفقون على موقف واحد في مواجهة المشكلات الكبرى التي تحتاج إلى الحشد والوحدة الوطنية، ومعظم البيانات الوطنية كانت خارجة من هذا المكان".
وأشار إلى أن "ريش" كان متنفسا لكل الطبقات والأنواع من الناس على اختلاف نزاعتهم، وظل البوليس السياسي يقصد المكان ورجال المخابرات والصحفيين الأجانب، كلٌ يفتش عن مآربه الخاصة وقياس الأخبار ومواكبه النبض المصري".
وذكر الكتاب أن المقهى كان له دورا كبيرا في "ثورة 1919"، وأن صاحب المقهى في هذا الوقت، كان عضوا في أحد أهم التنظيمات السرية، حيث وجد داخل المقهى بعد مرور 80 عاما على الثورة، آلة لطبع المنشورات، حيث أحدث زلزال 1992 شرخا بأحد جدران المقهى، ووجد خلف الجدار سرداب سري به منشورات وآلات طباعة يدوية.
وفي الأربعينيات من القرن العشرين، احتشد عدد كبير من العاملين في الموسيقى والغناء داخل المقهى، لإيجاد حلا لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم أم كلثوم، ومحمد عبدالوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع، الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر.
وكان الكافيه ملتقى الضباط الأحرار قبل قيامهم بـثورة يوليو1952، منهم جمال عبدالناصر، وأنور السادات، ومحمد نجيب، إذ كانوا يعدون ويجهزون لسيناريو الثورة. وفي العام 1972 انطلقت منه "ثورة الأدباء"، احتجاجا على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنعاني.
حفلات "الست" بكافيه ريش
كانت أم كلثوم تذهب إلى المقهى بصحبة المطرب والملحن الشيخ أبوالعلا محمد، وكانت لا تزال صغيرة في بدايتها، حيث تعاقد المقهى معها لإقامة حفلات غنائية بصفة مستمرة، وفقا لـ "جريدة المقطم"، في عددها الـ30، الصادر بشهر مايو عام 1923.
حيث صدر إعلانا يحدد يوم الخميس موعدا أسبوعيا لوصلات غنائية وتواشيح بصوت أم كلثوم، تحت عنوان "هلموا احجزو محلاتكم من الآن كرسي مخصوص بـ15 قرشا ودخول عمومي 10 قروش".
أحمد فؤاد نجم وريش
يعد أشهر رواد المقهى، وله قصيده شعبية ذائعة الصيت، وصف فيها نجم المقهى ورواده والمثقفين الذين كانوا يرتادونه في السبعينيات، بعنوان "يعيش أهل بلدي".
وتقول "يعيش المثقف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مزفلط كتير.. الكلام.. عديم الممارسة.. عدو الزحام.. بكام كلمه فاضية.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل.. قوام.. يعيش المثقف.. يعيش يعيش يعيش.. يعيش أهل بلدي".
فلفل النوبي
ومن أبرز جارسونات ريش، وهو اسم شهرة لأكثر جرسونات مصر عملا بهذه المهنة، وهو "محمد حسين صادق". استمر عمله في ريش لأكثر من 50 عاما متصلة، ظل خلالها موضع حب واحترام زبائن المقهى، فكان يحمل في جيبه أجندة يدون فيها ثمن طلبات الرواد، وإلى حين ميسرة يتم الدفع، وخلد "ريش"، "فلفل" عبر صورة كبيرة له تتصدر مدخلها وتحمل عبارة "القدوة".
إغلاق المقهى في عهد السادات
تم إغلاق "ريش" في عهد الرئيس أنور السادات، بسبب احتضانه لاجتماعات ومناقشات ساخطة حوله حكمه، حيث خشي صاحب المقهى إغلاقه بقرار إداري كونه يخالف قوانين الطوارئ، وأعيد افتتاحه بعد ذلك بسنوات.