أدب الكيف.. هزيمة سياسية ومجتمع مهمّش
المزاج الرائق أو الكيف بلغة أهله، كان السمة الأساسية في الأدب المصري خاصة بعد نكسة 1967، ليحضر وبقوة كعنصر رفاهية ووسيلة توفر لمتعاطيها فرصة للهروب المؤقت، من واقع لا يرضي طموح مواطن مثقف يعيش حياة اجتماعية وسياسية فاشلة، باحثا عن ضالته في تناول الحشيش.
رسم الأدب عوالم الكيف الخفية، بما تحتويه من غُرز ومزاج ومقاهٍ وراقصات، وهو ما عبّر عنه نجيب محفوظ في رواياته، خصوصًا في رواية "ثرثرة فوق النيل"، عن السكّير أو الذي يتناول الحشيش بكثرة، ليختلف الأمر بعد ذلك فيرتبط الحشيش بطبقة المهمشين والبسطاء كما صورته روايات خيري شلبي في حقبة معينة في السبعينيات، ليختلف الأمر بعد ذلك، خاصة مع بدء حقبة الثمانينيات وما بعدها، لتتجه الروايات الحديثة وبقوة نحو التوجيه ضد مخاطر الإدمان، أكثر من رسم الصورة ورصد الحالة، فتحول الأمر من مزاج وكيف إلى "إدمان ومخدرات"، مع ظهور مصطلحات أكاديمية شديدة القسوة مرتبطة بالذنب والعيب، والجريمة.
إخفاق سياسي
رواية "ثرثرة فوق النيل" ترصد العوّامة التي تلتقي فيها نماذج مختلفة من المواطنين والمثقفين في ستينيات القرن الماضي، ينتقد من خلالها محفوظ الأداء السياسي والاجتماعي، عن طريق الحوارات التي كانت تدور بين رواد العوامة. الرواية بمثابة ثورة على الأوضاع السياسية، استغل محفوظ مشاهداته وتجاربه الملموسة مع رواد غُرز الحشيش والعوَّامات في رسم تلك البيئة بصورة حية، ما أتاح له لمس وتشريح شخوص تلك الأماكن بشكل مباشر وحقيقي.
إلى ذلك، فإن أعمال أخرى لمحفوظ مثل "بداية ونهاية" و"الطريق" وغيرها من روايات، كانت تتناول حياة الحشاشين مع المخدرات، لكن تظل "ثرثرة فوق النيل"، الرواية الأهم والأبرز، ومن بين أكثر الروايات التي ترجمت إلى لغات أجنبية، وتحويلها إلى فيلم سينمائي.
حكّاء المهمشين
وفي رواية "وكالة عطية"، غاص خيري شلبي في حياة المهمشين، ليحكي وبصدق عن عالم مختبئ خلف ظلام الفقر، شاهده وعايشه الكاتب عن كثب، لأنه عمل كبائع متجول في سنوات عمره الأولى، حيث ولج إلى مناطق وشوارع لم يكن يجرؤ غيره على اقتحامها، فكان لابد له في مرحلة متقدمة، وهو الكاتب الحكاء، من أن يحكي عن سيرة الأماكن وأبطالها بكل شفافية، عارضا للتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية فيها.
إضافة إلى "وكالة عطية"، برز الكيف في روايات أخرى لخيري شلبي مثل "موال للبيات والنوم"، و"صالح هيصة"، و"نسف الأدمغة"، و"منامات عم أحمد السماك" و"الوتد"، وكلها تعرضت لحياة الحشاشين وثقافاتهم، وإن ظلت "وكالة عطية" الرواية الأهم التي تحدثت عن الكيف، كوسيلة للحصول على السعادة المزعومة لدى طبقة من المجتمع الفقير.
ففي "صالح هيصة" حكايات عن 60 غرزة لتناول الحشيش في أحد شوارع وسط القاهرة، فيها مشاهدات عن مواصفات "الجوزة" وجودة أنفاسها، وحسرة على تناقص عدد مرتادي تلك الغرز في زمن ما من سبعينيات القرن العشرين.
أديب حشاش
ويحكي حمدي أبوجليل في روايته "الفاعل"، الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية، قصة كاتب يقوم بالكتابة وهو يقسّم الحشيش على ثلاث سجائر، يدخنها أثناء الكتابة، ويدخر السيجارة الأكثر امتلاءً للنهاية، وطالب آخر يتجه للعمل في "الفاعل"، حاملا الرمل والطوب وهو يكتب قصص ينشرها في الصحف والمجلات، تحت تأثير الحشيش.
رواية وعظ
مؤخرا، كانت رواية "ربع جرام"، التي تجاوزت عدد طبعاتها 32 طبعة، للكاتب عصام يوسف، مختلفة عما سبق، فلم تكن القصص فيها من سياق العمل الأدبي، بقدر ما كانت تمتلئ بنبرة الوعظ والإرشاد، ولم يكن السرد فيها، ووصف التفاصيل، ورصد شرائح محددة من المجتمع كما في روايات أدب المرحلة الأولى، بل جاءت أكثر توجيها، من خلال قصة شاب يدمن على المخدرات، وتبدأ رحلته بشرب سيجارة حشيش، وحتى ينتهي به الحال الى مدمن للكوكايين، ومن ثم رحلته مع محاولات العلاج من الإدمان، وتأثير إدمانه على مجتمعه وأسرته المحيطة به.