التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 03:42 م , بتوقيت القاهرة

فيديو| نزار قباني وبلقيس.. بعض الغناء بكاء

"بلقيس.. كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل، كانت أطول النخلات في أرض العراق، كانت إذا تمشي، ترافقها طواويسٌ، وتتبعها أيائل.. بلقيس، يا وجعي، ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل، هل يا ترى من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟، يا نينوى الخضراء، يا غجريتي الشقراء، يا أمواج دجلة، قتلوك يا بلقيس.. أي أمةٍ عربيةٍ تلك التي تغتال أصوات البلابل؟”..

في وقت تناحرت فيه الأحزاب والطوائف في لبنان، واندلعت على إثرها الحرب الأهلية لمدة 15 عاما، كانت فاجعة أخرى تنتظر قلب الشاعر، حين قُتلت زوجته جراء تلك الأحداث في انفجار سيارة بجوار السفارة العراقية ببيروت، التى كانت تعمل بها، ليغازلها في عالمها الآخر بتلك الكلمات في قصيدة سميت باسمها، عبر بها عن فيض عشقه ووجعه على حبيبته بلقيس الراوي، التي اتهم العالم العربي أجمع بقتلها.

نزار قباني، صاحب تجربة خمسين عاما، كانت برهانا على قدرة الحب أن يستمر حتى في زمن الفوضى والمأساة، لم يكن يعلم حين كان رجلا دبلوماسيا بوزارة الخارجية السورية، وسفيرا لبلده في عدة دول، أن يترك السياسة يوما، وهي التي توسطت له عند والد "بلقيس" ليوافق على زواجهما، عندما كان مدعوا على مهرجان "المربد" الشعري في العراق، وحدث الجمهور بأمر حبيبته في قصيدة مطلعها "مرحبا بك يا عراق، جئت أغنيك، وبعض من الغناء بكاء"، فأوفدت الحكومة وفدا رفيع المستوى لوالدها، وبالفعل وافق على زواجهما بعد رفضه في مرة سابقة، وهي السياسة ذاتها التي فرقتهما بعد ذلك، حين اغتالت الحرب الأهلية اللبنانية، بلقيس.

ألهمت بلقيس، التي تعرف عليها نزار في إحدى الأمسيات الشعرية بالعراق، قلمه، ليسطر كتاباته وقصائده بمشاعر حقيقية، عبرت الدول حتى أصبحت رمزا للحب في العالم العربي، وتحولت إلى أغنيات، هي أول ما يتردد على مسامع العشاق.

قال لها: "أشهد ألا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنتِ، واحتملت حماقتي عشرة أعوام كما احتملت، وقلمت أظافري، ورتبت دفاتري، وأدخلتني روضة الأطفال.. إلا أنتِ"، فشعر الحب الذي كتبه نزار قباني، تجاوز حدود زمانه والمحيطين به، فتجلى خلاله تجربة الحب الأزلية، التي لا تموت.

ورغم شهرة نزار بقصائد الحب، اتخذت قصائده السياسية مساحة من أعماله، وخلقت جدالا واسعا، لما تضمنته من نقد للوضع العربي، فحينما كتب قصيدة (خبز وحشيش وقمر)، أثارت رجال الدين السوريين، وطالبوا بطرده من السلك الدبلوماسي، وانتقلت المعركة إلى البرلمان السوري، وكان أول شاعر تناقش قصائده في البرلمان، وعلى إثر نكسة 1967 كتب قصيدته «هوامش على دفتر النكسة»، فتم منع قصائده المغناة في الإذاعة أو التليفزيون.

رفض نزار إلى جانب حبيبته، كل ما جلبته له السياسة، رفض اليأس والموت، حاملا إلى قرائه، الذين لا عداد لهم، رسالة الحياة والأمل والجمال والحب، إلى أن تجرع قلبه مرارة الوجع على وطنه وعلى ابنه من زوجته الأولى، توفيق، وعلى رفيقة عمره، التي روى آخر لحظات في حياتها قائلا: "كنت في مكتبي بشارع الحمراء حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد ولا أدري كيف نطقت ساعتها: ياساتر يارب، بعدها جاء من ينعي إليّ الخبر؛ السفارة العراقية نسفوها، قلت بتلقائية بلقيس راحت، شظايا الكلمات مازالت داخل جسدي، أحسست أن بلقيس سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد".

وكشف في إحدى مقابلاته أيضا عن ظهور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مكان التفجير، وظل يبحث وسط الأنقاض مُدة خمسة عشرة يوما، ويقول :"أين أنتِ يا بلقيس؟ رُدي على أبيك يا وردة الثورة الفلسطينية"، غير أنه أخيرا جلس ليحكي قصة بلقيس، فكانت إحدى المنضمات خلال دراستها في المرحلة الثانوية إلي صفوف الثورة الفلسطينية، وتدربت على يده وآخرين على حمل السلاح وشاركت فيما عُرف بـ "معركة الكرامة" في صفوف الجيش الأردني والمجاهدين الفلسطينيين في عام 1968، الذين نجحوا في صد العدوان الإسرائيلي عن احتلال الضفة الشرقية لنهر الأردن.

وقال عرفات لنزار قباني أثناء تشييع جنازتها : "بلقيس الراوي لم تكن زوجتك فقط يا نزار، بقدر ما كانت ابنة الثورة الفلسطينية".

راحت بلقيس وظل نزار على ذكراها 15 عاما، حتى وفاته في مثل هذا اليوم عام 1998، ويقول عنها في ختام قصيدته:

"نامي بحفْظِ اللهِ .. أيَّتُها الجميلَةْ

فالشِّعْرُ بَعْدَكِ مُسْتَحِيلٌ ..

والأُنُوثَةُ مُسْتَحِيلَةْ

سَتَظَلُّ أجيالٌ من الأطفالِ ..

تسألُ عن ضفائركِ الطويلَةْ ..

وتظلُّ أجيالٌ من العُشَّاقِ

تقرأُ عنكِ . . أيَّتُها المعلِّمَةُ الأصيلَةْ …

وسيعرفُ الأعرابُ يوماً ..

أَنَّهُمْ قَتَلُوا الرسُولَةْ" ..