التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 12:28 م , بتوقيت القاهرة

عن "لعب عيال" نبيهة لطفي وما يثيره فينا

خلال صيف 2011، تفرّقت مجموعة أصدقاء الثانوية العامة التي أنتميت إليها بسبب مكتب التنسيق، واتجه كل منّا إلى الكلية التي التحق بها. وفي لقائنا عند نهاية الأسبوع الأول من الدراسة، كانت الحكاية الجامعية الأغرب هي من الصديق الوحيد الذي التحق بكلية التربية الرياضية، والذي نقل لنا حقيقة مُضحكة هي أن أحد المناهج التي بدأ دراستها، هو منهج بعنوان "ألعاب صغيرة"، يدرس فيه طلبة الأكاديمية قواعد ألعاب الأطفال الشعبية المشهورة في مصر.


وقتها بدا الأمر عبثيا بالنسبة لنا، فمن ذا الذي يحتاج أن يعرف قواعد لعب "الاستغماية"؟ أم من سيرجع لكتاب كي يتذكر قواعد "السبع طوبات" و"كهربا" و"المساكة" و"صلّح"، وعشرات الألعاب الأخرى التي يحفظها الجميع عن ظهر قلب، مع سنوات من اللعب والشجارات والسهرات التي جعلتها أمورا مسلما بها في عقولنا، لدرجة تفهمنا لأن يدرس الصديق قواعد لعب الهوكي والكريكت أكثر من إدراكنا لسبب وجود ألعابنا الصغيرة في منهجه الجامعي.


حسنا، لن أطيل في حديث الذكريات التي قفزت تلقائيا إلى ذهني خلال حضوري لحفل تكريم جمعية نقاد السينما المصريين للمخرجة والناقدة الكبيرة نبيهة لطفي، والتي اختارت أن تعرض خلال الحفل فيلمها التسجيلي القصير "لعب عيال"، الذي صورته عام 1980 في إحدى قرى محافظة المنوفية، مع مصور كبير هو سمير بهزان، قام معها برصد الألعاب الشعبية التي يمارسها أطفال القرية.


نبيهة لطفي


الفيلم في زمنه كان من الممكن أن يثير العديد من الأفكار الاجتماعية والإنسانية، عن بحث هؤلاء الأطفال عن السعادة، عن ثراء خيالهم وأرواحهم على الرغم من واقعهم التعيس، عن قدرتهم على التعاون في الخروج ولو بالخيال من القرية البدائية والملابس البالية والأقدام الحافية، وبالطبع عن كون مشاركتهم في جني المحاصيل ـ المشهد الذكي الذي افتتحت به المخرجة الفيلم ـ هو الآخر نوعا من اللعب للتحايل على الواقعين الاقتصادي والنفسي.


هذا عما كان من الممكن أن يثيره "لعب عيال" قبل 35 عاما. نعم عام 1980 كان من 35 عاما بالتمام والكمال. أما اليوم، فقد جعلني الفيلم أفكر في أمور أخرى، وأتذكر الحكاية التي بدأت بها المقال، والتي تعكس ـ على الأقل بالنسبة لصاحبها ـ تغييرا جذريا شهدته مصر خلال الأربعة عشر عاما التي تفصلنا عن تاريخ حدوثها.


اليوم، ربما ستكون "ألعاب صغيرة" مادة صعبة على معظم الملتحقين حديثا بالتربية الرياضية، الجيل الذي تفتحت عينيه على امتلاكه لكل الأجهزة الإلكترونية، حواسب وهواتف نقالة وفضائيات وأجهزة للألعاب، وعشرات وسائل التسلية الأكثر بريقا وجاذبية، والتي كان من حسن حظ جيلي أنه عرفها متأخرا، وكان من الممكن التعامل معها باعتبارها مكافأة من نوعية "إذا ذاكرت جيدا خلال الأسبوع فسيسمح لك باللعب على الكومبيوتر ساعتين في نهاية الأسبوع". اليوم صار من المستحيل أن نعتبرها مكافأة، صارت التكنولوجيا بكل ما تحمله من خير وشر واقعا يوميا، لا يستطيع الآباء أنفسهم الفكاك منه حتى يتمكنون من السيطرة على تعامل الأبناء منه.


(ملحوظة ضرورية: ما سبق ينطبق على القرية قبل المدينة، والفقير قبل الغني، فتغلغل التكنولوجيا في الحياة اليومية للمصريين صار واقعا في كل أرجاء الدولة، بصورة تفوق حتى حياة البعض في دول الغرب، التي يملك الإنسان فيها واقعا ربما يشغله قليلا عن قضاء حياته بالكامل عبر الشبكات).


هذا ليس مقالا عن الذكريات أو ألعاب الزمن الجميل. وبشكل عام أؤمن أن الوضع الحالي أفضل من السابق، على الأقل في عدالة وصول المعلومات والحقائق والفرص للجميع رغما عن أنوف المركزية. في أصغر قرية مصرية بإمكان من يريد أن يقرأ ما يشاء من كتابات ويشاهد ما يشاء من أفلام كان من المستحيل في زمننا أن نصل إليها دون موافقة الكبار. في أصغر قرية مصرية بإمكان من يريد أن يعثر على أشخاص يماثلونه في القناعات والأفكار والأحلام، دون أن يشعر بالوحدة الروحية أو أن يتعرض لشيء مخيف كتعامل الجميع معك كشخص مارق ونبت شيطاني ينبغي تقويمه.


الوضع الحالي أفضل بكل تأكيد لمن يريد أن يصير أفضل، لكن بالنسبة للأغلبية العددية من المصريين التقليديين، يبدو أن عيوب التكنولوجيا تحكمت أكثر بكثير من مميزاتها. وصار من الضروري أن نقارن بين حال أطفال "لعب عيال" الحفاة وأطفال قرية 2015 ممن يحملون هواتف محمولة ويقضون يومهم يلعبون في مقاهي الإنترنت. بالتأكيد هناك تجريف في الخيال، في انطلاق الروح وسعيها لملامسة السماء. هناك قولبة ما على طريقة القرن الحادي والعشرين، قولبة تقوم ـ للعجب! ـ على فردية التعرض لوسائل الإعلام، وهو تناقض لفظي مثير للدهشة والتأمل.


هناك بالطبع نكوص في مستوى التفتح بالرغم من كل شيء، ففي 1980 كان الأولاد والبنات يلعبون معا بكل أريحية، ودون محاذير سوى منعهم من لعب "عريس وعروسة" بشكل مادي، فيقومون بدلا من ذلك باستخدام البوص لصناعة واقع بديل. وهناك قبل كل ذلك تناقصا واضحا في مستوى السعادة، فبعيدا عن كل حسابات النوستالجيا والحنين، ما يظهر على الشاشة أن هؤلاء الأطفال بكل واقعهم العسير، كانت وجوههم أكثر سعادة من وجوه أطفال اليوم.


للأفلام التسجيلية قيمة في أرشفة العادات والتقاليد، الأماكن والأحداث التاريخية، لكن قيمتها الأكبر هي في الإمساك بتاريخ المشاعر والأفكار، بنحت لحظات في الزمن يمكن الرجوع إليها كي نتملس ما كنا عليه وما انتهينا إليه. للأفلام التسجيلية الحقيقية قيمة لا يعيها حتى صانعها نفسه إلا بعد حين، ولا نشعر بها نحن إلا عندما تثير لقطات فينا مشاعر كالتي أثارها "لعب عيال" نبيهة لطفي، التي كنت أتمنى أن يكون المقال عنها، لولا أن حرك فيلمها التي صنعته قبل 35 عاما هذه الأفكار، وهذا وحده دليل كاف على موهبة عظيمة.