التوقيت الإثنين، 25 نوفمبر 2024
التوقيت 02:57 م , بتوقيت القاهرة

منى هلا.. تكملة للحوار في المسألة

قلت في مقال أمس إن جوهر حملة التفتيش الأخلاقي على الممثلة منى هلا  "هو فلسفة نظرة المجتمع إلى المرأة كصاحبة سلعة مطلوبة، هي سلعة الجنس. ورغبة في تعظيم الانتفاع بهذه السلعة عن طريق مالكيها الأصليين، حتى تسليمها إلى مالكيها الجدد. ومن ثم سحبها من السوق لكي يزيد الطلب عليها". 

اليوم أحب أن أبقى مع هذه الفكرة قليلا، بعيدا عن الجدل حول الحوار التليفزيوني مع الممثلة منى هلا.

حين كنت عضوا في الجماعة الإسلامية كنت أعرف فتاوى يسمونها "فتاوى الخواص". أي أنها فتاوى محجوبة عن العوام. من تلك تأتي "فتاوى الجنس". فتوى رضاع الكبير، اللمم "أي التقبيل والمفاخذة وغير ذلك من التصرفات الجنسية دون الإيلاج"، وفتاوى الزواج السهل، الزواج لوقت معلوم، الزواج في السفر، وغير ذلك. 

الكهنوت لا يعني فقط الوضع الرسمي الذي يتبوأ فيه رجال الدين مكانة معينة في هرم السلطة، مكانة كهنة البلاط. الكهنوت قد يكون عرفيا. بعض العلوم، كالطب، ظلت حتى وقت غير بعيد تدرس بلغة لاتينية. لماذا؟ لكي تظل حكرا على خاصة الخاصة، وبالتالي تزداد أهمية. 

قد "أتفهم" هذا في الطب، كون الخطأ فيه يساوي أحيانا حياة إنسان. ولا يزال حتى عصرنا هذا كثير من الأطباء يعارضون فكرة كتب الطب الشعبية، التي تنشر معلومات طبية تجعل الناس يستغنون عن الأطباء، ويظنون أن بمقدورهم أن يعالجوا أنفسهم بأنفسهم، ما يؤدي إلى كوارث.

لكن الأمر مع الدين يختلف عن هذا. لأن الدين علاقة بين المرء والمرأة وربهما، وبالتالي فالدين المحجوب عن الناس لا قيمة له. لهذا انعكاسات كثيرة في السياسة، كما في الاجتماع. لكنني سأقتصر على موضوع اليوم. المسألة الجنسية. 

كيف نبرر طوفان أنواع الزواج التي فوجئنا بها حين برز الإسلامجية على الساحة؟

بواحد من اثنين. إما أنهم يخترعون فتاوى لا أصل لها في الدين. وإما أنهم يكشفون عن فتاوى و"رخص" موجودة في الدين لكنها كانت محجوبة على العوام.

الاحتمال الأول كارثة، تنهي الموضوع برمته. وليس أمامنا إذا سوى الاحتمال التاني. فلماذا؟ لماذا يحجبونها عن العوام؟

إما أن تكون مصلحة لأحوال الناس - كما يفترض من الدين ومن ربانية مصدره - ولكنهم يحجبونها. فهذه أيضا كارثة.

وإما أن تكون مفسدة لأحوال الناس، ولذلك يحجبونها. وهذا مبحث خطير جدا. لأن لسان حالهم هنا يقول إن الله ينزل أحكاما مفسدة لأحوال من يخاطبهم بتلك الأحكام. ليس هذا فحسب. بل إنهم هم - رجال الدين - الذين اكتشفوا هذه المفسدة فحجبوها، تعديلا على أحكام الله وعلى حكمته. هل هذه كارثة فقط؟ أترك لكم الإجابة.

هذه أسئلة مهمة لك إن كنت متدينة. وهي أيضا أسئلة مهمة لك إن كنت تريدين أن تفكري في موضوع حال الدين وحال رجال الدين. أسئلة بسيطة، إنسانية، لا فيها غمز ولا لمز. بل فيها المنطق الطبيعي للفهم. 

سأستثني الكوارث الكبرى. ولن يتبقى لنا إلا افتراضان فقط:

1- أن هذه الأحكام "السماوية" مصلحة لأحوال الناس كما ينبغي. ورجال الدين لا يحجبونها. لكنه المجتمع الذي يتجاوزها ليعلي أعرافه فوقها. ولكي يحقق ما يظنه منفعه اقتصادية واجتماعية. تمام. يجب على رجال الدين هنا، لو كانوا فعلا يدافعون عن الدين، أن يقولوا للمجتمع عيب، مايصحش. إن هناك "رخصا دينية" كثيرة لممارسة الجنس، فلا تطفشوا من الدين، ولا تنفروا الشابات والشباب وتشعروهم أن الدين هو اللي خانقهم. وأن يخوضوا الخناقة بين الدين والمجتمع، لكي يظهروا أن المجتمع - لا الدين - هو الذي يتشدد في الجنس.

2- أن هذه الأحكام "السماوية" مصلحة لأحوال الناس. لكن رجال الدين يحجبونها لتغلية ثمنها، ولكي "يعطوها فقط للغاليين". 

هذا احتمال يؤيده سلوكهم. رجال الدين لم يعترضوا أبدا على الزواج العرفي من قبل، وهو منتشر في المجتمع المصري قديما وحديثا. أقصد لم يعترضوا عليه دينيا. إنما اعترضوا عليه حين صار يتم بين الشباب والشابات من طلبة الجامعات ومن في مرحلتهم العمرية. وهذا يعني أنهم يتحكمون اجتماعيا، ولا يفتون دينيا. بمعنى أنهم يعترضون على أن تملك الشابة والشاب زمام أمر "حيوي" كهذا في أيديهم. ومن أجل هذا الضبط الاجتماعي "يحرمون ما أحل الله". 

طيب، اجتماعيا، ماشي. هل يتوقف الموضوع عند هذا الحد؟ أبدا. هناك البعد السياسي. إن طوفان "الرخاء الجنسي" الذي بُشِّر به الرجال مع صعود الإسلامجية لم يكن أكثر من استغلال "سياسي" لسلعة الجنس. تبشير بمجتمع ينعم فيه الرجال جنسيا، وبالبركة الدينية. بمعنى طول ما احنا بعيد عن السلطة هنطلع (...) لكن لما يبقى الموضوع في إيدينا هننغنغكم. 

كما أن هناك بعدا آخر. تحريم الجنس - حتى في ما أحله الدين من قبل - يحفظ النساء في أيدي الرجال. فيزوجونهم لمن يشاؤون لا لمن يشأن. من منظورهم لا من منظورهن. هل من ظلم اجتماعي أكبر من أن "تُسيَّر" امرأة لكي تعيش مع شخص لا تريد أن تعيش معه، تنام معه وتقوم معه، تستمع لصوته في أذنها ليلا ونهار. لقلت نفس الشيء بالنسبة للرجال لو كانوا يتعرضون لذات القهر. لكن ما نراه واقعيا أن النساء هن اللاتي يتعرضن له، ويعاملن كسلعة.

الجنس، وهذا كلام من شخص أربعيني ترك الشباب وراء ظهره، وكان الطب مجال دراسته، وظيفة حيوية تأتي ثانيا بعد الغذاء للحفاظ على النوع الإنساني. أهميتها تلك مرتبطة أيضا بعشرات الأنشطة المهمة. الغذاء العامل الأساسي في بناء جسمك. الجنس العامل الأساسي في بناء شخصيتك كشاب وشابة، ومن خلال التقائك بأشخاص آخرين في ظروف ومواصفات لا تتوفر بغيره، ومن خلال بناء ثقتك بنفسك وإحساسك بمدى جاذبيتها للآخرين، هو معيار جاذبية بالغ الأهمية. الغذاء عامل أساسي في بناء إنجازك العضلي. الجنس عامل أساسي في بناء إنجازك الفني والفكري، ورسم طريقة نظرك إلى الحياة. 

لا داعي للإفاضة في هذا فقد صار معلوما ولا مجال للمجادلة فيه. أنا هنا - مرة أخرى - لا أدعو إلى توجه معين في المسألة الجنسية. ليس في هذا المقال. الغرض ألا تسمح/ي بتأجيل الحوار حوله، ولا تسمح/ي بفرض الوصاية فيه عليك. ولا باستخدامه سلعة لتطويعك وربطك بمن يملك "مفتاح الكرار". هذه هي النقطة الجوهرية. شكرا لمنى هلا أنها فتحت هذا الموضوع ولم تنحن للضغط والتفتيش.