"وعلى صعيد آخر".. في أسبوع آفاق السينمائي
أسبوع آفاق السينمائي، فعالية تختتم غدا، الأربعاء، استضافتها قاعة سينما زاوية في وسط البلد، بتنظيم من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق)، الذي اختار القائمون عليه أربعة عشر فيلما من الأفلام التي قام الصندوق، الذي يعد أحد أهم داعمي السينما المغايرة في المنطقة، بدعمها خلال الأعوام الأخيرة.
الغالبية بالطبع كانت للأفلام الطويلة، روائية وتسجيلية، فعُرض الأسبوع عشرة منها من سبع دول عربية. من أهم الأعمال المعروضة "المطلوبات الـ18" للفلسطيني عامر الشوملي، "روشميا" لمواطنه سليم أبو جبل، "البحر من ورائكم" للمغربي هشام العسري، "الوادي" للبناني غسان سلهب، ويُعرض غدا، الأربعاء، في ختام الأسبوع الفيلم التسجيلي "جلد حي" للمصري أحمد فوزي صالح.
بعيدًا عن الأفلام الطويلة تضمّن أسبوع آفاق برنامجا واحدا للأفلام القصيرة، ضم أربعة أفلام قام الصندوق بدعمها، هي بترتيب العرض "سايبة" لباسم بريش من لبنان، "فتزوج روميو جوليت" لهند بو جمعة من تونس، "صباحًا أغني مساءً أخاف" لرولا لاذقاني وسلمى الديري من سوريا، "وعلى صعيد آخر" للمخرج المصري محمد شوقي علي.
من بين الأفلام الأربعة برز الفيلم التونسي، وهو روائي قصير عن زوجين عجوزين، تقدم بهما العمر وسنوات التعايش المشترك، فأسفرت عن حالة من الركود والتوتر الداخلي بينهما، تمكّنت المخرجة هند بو جمعة من التعبير عنها بإيقاع فيلمي متهاد، نتنقل فيه بين عالمي شخصين يعيشان في بيت واحد بعدما وصل الصمت بينهما لأقصى مداه، وأصبحت جملة مبتسرة مثل "اليوم مكرونة"، يقولها الزوج فتقبلها الزوجة بديلا لحوار يفترض أن يدور بينهما بشكل دوري، بينما تحاول المرأة في عالمها الخاص التمسك بجمال ذائب يهدده التحلل ساعة بعد الأخرى.
أما أفضل الأعمال الأربعة وأكثر فيلم تجاوب الحضور معه فكان الفيلم المصري "وعلى صعيد آخر"، وهو عمل تجريبي قصير سبق وأن شارك في برنامج "الفورم الممتد" ضمن مهرجان برلين السينمائي في فبراير الماضي، وهو البرنامج الذي يهتم بالأعمال ذات الحس التجريبي، والذي تواجدت فيه مصر هذا العام بثلاثة أعمال دفعة واحدة، كصورة مغايرة للتعامل مع الوسيط السينمائي تنشأ بعيدا عن الصخب الإعلامي، لكن هذا ليس موضوعنا الآن.
موضوعنا هو فيلم محمد شوقي حسن، والذي تقوم التجربة فيه على المزج بين ثلاثة عناصر قد تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة إطلاقا، أهمها شريط صوت ذكي، يجمع عددا من المحادثات الغريبة التي جرت في برامج التوك شو المصرية، بكل طابعها العصابي الزاعق بوطنية زائفة، الآتية من الضيوف والمتصلين أحيانا، ومن مقدمي البرامج دائما. شوقي حسن يمزج هذه المحادثات مع بعض المقاطع من الأفلام القديمة لصياغة شريط صوت لاذع، يمكن اعتباره بشكل مستقل عملا يمكن الاستماع إليه، لكن التجربة السينمائية تأتي من إثرائه بالعنصرين الآخرين: الصورة والنصوص.
الصورة المكونة من لقطات استاتيكية، معظمها صورت خارج مصر ـ في الولايات المتحدة ربما ـ لحركات ميكانيكية يمارسها عامل في سوبر ماركت، أو سبّاحون في تمرينهم، أو حتى تخلو من أي حركة وتقتصر على لقطة ثابتة داخل منزل ـ المخرج ربما. يتقاطع مع الصورة نصوص مكتوبة على الشاشة، تروي في البداية حكاية بلا محك، عن فراغ عاشه شخص ما دفعه لمراقبة السباك الذي جاء لإصلاح شيء في منزله. قد تكون الحكاية نفسها اقتباسا من رواية ما، فالنصوص كلها تتحول لاحقا إلى مقاطع مختارة من روايات ذكرها تتر النهاية، لكتاب أذكر منهم ميلان كونديرا وإيمان مرسال.
اللقطات منفردة قد لا يكون لها نفس قيمة شريط الصوت الغني بشكل مجرد، لكن تشابكها مع النصوص (وهي عنصر بصري أيضا) يخلق شحنة عاطفية أقرب إلى الملل والرتابة، المتناقضة كليا مع العُصاب الذي لا يتوقف لحظة في شريط الصوت، ليكون على المشاهد أن يتعامل في نفس اللحظة مع تأثيرات ثلاثة متباينة: هدوء تخلقه الصورة، تأمل نابع من النص، وتوتر واشتعال لا يتوقف في الصوت، وفي تضافر المستقبلات الثلاثة يتم خلق الفيلم داخل عقل المشاهد، بصورة تتأثر حتما بعناصر عديدة أبسطها مصدر ثقافته وسهولة تعرفه على أصوات المتحدثين، وأعقدها قدرته على تلقي كل هذا الزخم بأكبر قدر من الانتباه، لكنه سيبقى دائما انتباها منقوصا، لأنه إذا ما افترضنا وجود عنصر رابع في تجربة شوقي حسن، فسيكون ما تثيره لحظيا من أفكار داخل عقل المشاهد أثناء العرض.
بعيدا عن التعقيد النسبي لشكل التجربة، تظل الميزة في "وعلى صعيد آخر" مقارنة بمعظم الأفلام التجريبية هي احتفاظه بنسبة معقولة من الإمتاع. هذا فيلم لا تستقبله ببرود ذهني ـ خاصة إذا ما كنت مصريًا أو ملما بما يحدث في مصر ـ بل تتفاعل معه عاطفيا أيضا، أي أنه يحرك عقلك ومشاعرك بصورة متوازية ومتقاطعة، وهو إنجاز حقيقي لمخرج خاض تجربته السينمائية، فأنتجت عملا أصيلا، لاذعا، خفيف الظل، مؤثرا، ولا يشبه إلا نفسه.