شراب الآلهة.. أصل وفصل الخمرة
يقول جوزف الأسمر في كتابه "الخمرة عند العرب وقصة العرق اللبناني"، "إن الحضارات القديمة كلها من الصينية إلى الفرعونية إلى السومرية إلى الإغريقية عرفت الخمرة، وشربتها أولا بشكلها البدائي وأسموها البيرة، وهي التي تخمر بالماء والخبز، قبل أن تتطور إلى النبيذ الذي سميت الخمرة باسمه."
العراق
كان العراقيون القدماء أول من أنتج العرق من تمر النخيل، وذكر النبيذ في الكِتابات لأول مرة من خلال ملحمة جلجامش، عندما كسر جلجامش وصديقه أنكيدو الخبز وشربوا معه الخمر.
كذلك تم ذِكر صناعة البيرة في أقدم الكِتابات السومرية 6000 سنة ق.م، من خلال صلاة الشُكر إلى الآلهة السومرية نانكاس أو نينكاسي، وكذلك تم اكتشاف لوح طيني مسماري مفخور يعود إلى 2050 ق.م، يحوي على وصفة لصناعة البيرة في مدينة أور السومرية.
وذكر الملك حمورابي البيرة في قوانينه، وحدد لكل مواطن حصة يومية من البيرة بحسب منزلته الاجتماعية.
ويقول كتاب "الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور"، من تأليف جورج كونتينو، "إن أشجار الكروم وصلت إلى بلاد آشور حديثا، وأن هناك نصوصا تُشير إلى بيع الخمور في الإمبراطورية الآشورية، فأشجار الكرم تشاهد مصورة على منحوتات آشورية في المتحف البريطاني، ويعود تاريخها إلى عهد الملك آشور بانيبال، وتظهر وهي مُلتفة حول جذوع أشجار في حديقة كان الملك يتناول طعامه فيها".
وفي أسطورة "الخلق السومرية"، تقول بعض مقاطعها إن الآلهة الأم "نمو" أيقضت ابنها الإله "أنكي"، وأخبرته عن تذمر وثورة الآلهة الصغيرة "إيكيكي"، بسبب شدة إرهاقهم في خدمة الآلهة الكبيرة "أناناكي". وهنا ينصحها "أنكي" بخلق البشر من (طين مياه العمق)، ثم مزج الطين بدماء أحد الآلهة بغية إعطاء البشر العقل والحكمة.
وهكذا تقوم الإلهة "ننماخ" وبمساعدة سبعة آلهات أُخريات بصنع البشر من الطين. وبعد عملية الخلق يُقيم كل من "أنكي" و"ننماخ" وليمة شراب لكل الآلهة احتفاء بخلق أول البشر.
وبعد أن يسكر كل من "أنكي" و"ننماخ"، تقوم "ننماخ" بأخذ ما تبقى من (طين مياه العمق)، ولشدة سُكرها تقوم بصنع ستة مخلوقات بشرية ناقصة وغير متكاملة.
مصر
المصريون القدماء عرفوا أنواعا من الخمر، كتلك المعروفة بـ"جعة البوظة"، وهناك عدد من البرديات تحمل النصائح لشاربي الخمر بعدم الإسراف فيها، حتى لا يذهب عقله ويضحك عليه الأصدقاء.
ومن الثابت تاريخيا اعتقاد الفراعنة بأنّ أصل الخمر يعود إلى سيلان دماء المحاربين وامتزاجها بالتراب ليفوح الخمر، ويتضح ذلك من نقوشات المقابر.
وفي المُدونات المصرية التي ترقى إلى 2500 ق.م، ذكرت صناعة الخمر من العنب. وذِكرت البيرة على أكثر من 40 بردية مصرية قديمة.
وكانت البيرة في مصر الفراعنة يومذاك للكبار والصغار، حيث كان هناك نوع من البيرة تستعمل للسُكر والاحتفالات والطقوس الدينية والوطنية، وأخرى للاستهلاك اليومي فقط كمرطب أو مع الطعام.
كذلك وضعوا لائحة توضح الفوائد الطبية للبيرة، ومنها: معجون البيرة لتضميد الجروح، وبخور البيرة لتخفيف آلام الشرج.
وأحيانا كانت البيرة تستعمل للمقايضة بدل النقود، وفي تمشية عملية البيع والشراء. وكان الشغيلة في بناء الأهرامات يحصلون على ثلاث وجبات يومية من البيرة كجزء من المواد الغذائية المُخصصة لهم.
ويقول المؤرخ هيرودت إن "المصريين الفراعنة كانوا يُخرجون أحشاء الميت كلها، فينضفونها ويغسلوها بنبيذ التمر".
وورد ذكر الخمر في إحدى الأساطير المصرية القديمة، تقول إن "إله الشمس (رع) حرض الإلهة البقرة (هاثور) على ذبح كل البشرية، لاعتقاده بأنهم كانوا يتآمرون ضده، لكنه لم يكن ينوي فناءهم جميعا، لذا قام بإغراق الحقول بالجعة الملونة بالأحمر كلون الدم، وعندما رأت البقرة (هاثور) صورتها منعكسة في الجعة التي ملأت الحقول، شربت منها وسكرت سكرا شديدا ونامت ناسية المهمة التي أرسِلَت من أجلها، وهكذا نجت البشرية من الفناء".
اليونان
كان لهم إله للخمر (ديونيسوس أو باخوس)، وهم الذين نقلوا الكرم إلى إسبانيا. وبعدهم نقل الرومان العنب إلى منطقة الراين والدانوب.
واللفظة الدالة على الخمر بالعربية (الوَين wine) نوع من الزبيب، هي كلمة مُشتركة في عدد كبير من اللغات، بما في ذلك اللغات السامية الحامية، واللغات الهندية الأوروبية، وغيرها.
ومن المعروف أن الدراما الإغريقية نشأت من عبادة ديونيسوس، الإله الريفي، المغني، راعي الخضرة وحامي الأشجار. وكان لـ"ديونيسوس" حاشية مرافقة له في مغامراته ورحلاته، وهي خليط من الكائنات الأسطورية التي تمثل قوى الطبيعة الفعالة وتجسد العواطف والانفعالات البشرية.
وضمت تلك الحاشية مجموعة من النساء سمّيت "الباكخيات" أو عابدات "باخوس"، ويظهرن في الرسوم بأجساد ضخمة كثيفة الشعر لهن ملامح تنم عن حالة السكر وتشي بالمتع الحسية التي يغرقن فيها.
طقوس
في ملحمة جلجامش نجد أن الرجل المتوحش أنكيدو (رفيق جلجامش) في طريقه للحضارة، يتعلّم شرب الخمر، حيث يقول النص "لقد تناول الجعة سبع مرات، ما أدى إلى تحرر روحه، وراح يهتف بصوت عالِ، وقد امتلأ جسمه بحسن التكوين، وأشرق وجههُ".
وكان للسومريين مئات الآلهة، لكل واحد منها اختصاص مُعين، ومن ضمن هؤلاء الآلهة كان إله المتعة "سيريس"، وهو الإله المسؤول عن تحويل الشعير إلى بيرة، المشروب القومي حينذاك.
أما عن خدمة الآلهة في معابد بابل، فيرد وصف بليغ ومعبر على أن العراقيين كانوا يعشقون ويقدرون الخمر الجيدة، في كتاب "الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور".
ونقرأ في الكتاب عن تلك الطقوس "في كل يوم من السنة، وفي وجبة طعام الصباح الكبيرة، كانوا يهيئون أمام تمثال الآلهة (آنو)، 18 إناء على مذبحه، و7 عن اليمين. 3 منها لبيرة الشعير، و4 أخرى من البيرة المسماة (لَبكو). و7 أواني عن اليسار، 3 من بيرة الشعير، وواحدا من بيرة ( لَبكو)، وواحدا من بيرة (ناشو)، وواحدا من بيرة (الجرة)، وإناء آخر من الجصّ للحليب، بالإضافة لكل ذلك كانوا يضعون 4 آنيات مصنوعة من الذهب للخمر المعصورة".