مُذنِبون لا يُحاكـَمون
شاهدت حلقة من برنامج جديد بعنوان "كلمة حق" تقديم الفنان خالد الصاوي، وهو برنامج يعتمد على فكرة عرض خلافات ومشاكل قائمة بين أفراد المجتمع، وتبيان وقائعها على الشاشات بكل أريحية، فيما يشبه المحاكمة، يكون مقدم البرنامج بمثابة القاضي الحاكم بين المتنازعين، بعد الاستماع لدفاعهم.
وفي الحلقة المذكورة كانت الشكاية بين سيدتين جارتين وصديقتين، أقرضت أولاهما الثانية مبلغ عشرين ألف جنيه، على سبيل المساعدة لتقيم مشروعا تجاريا تسد به احتياجاتها، على أن ترد لها المبلغ وأقامت مشروع عصارة قصب، وساعدتها الأولى بالفعل في تجهيزه وشراء آلاته وأجهزته الكهربائية، ولكن عانت الثانية من تكالب عمال المحل الذي افتتحته، فأضروا بالمشروع وألحقوا به الخسارة، أثناء تعرضها لجراحة قلب، وتعثّرت في السداد، فأصبح الأمر موتا وخراب ديار.. بدأت صاحبة الديْن في طلب دينها لاحتياجها إلى تجهيز متطلبات ابنتها العروس، في حين كشّرت المدينة عن أنيابها، لعدم جود دخل تسد به مستحقات دائنتها.. تعقد المشهد وصار مأسويا ثم رديئا، بأن وصل الحال بالثانية أن تضرب دائنتها كلما جاءتها تطالبها بالمال، كي تستطيع إتمام زفاف ابنتها.
المشهد حقيقة كان يحتوي ملاحظات جديرة بالتوقف، فالمبلغ محل النزاع هو مبلغ 20 ألف جنيه، وهو مبلغ متوسط بحسب قيمة اليوم، لكنّه هام للغاية بالنسبة للطرفين. كل من السيدتين يبدو أنها تعول أسرة، فالدائنة زوجها توفى، وترك لها ستة أبناء، بين مرحلة الابتدائية وسن العشرين، أما السيدة المدينة فلديها أربعة أبناء فى أعمار مختلفة.. إذن يتصارع حول المبلغ عدد اثنا عشر فاه, عشرة أبناء وأُمّان!
بحسبة بسيطة وبحسب الآمال المعقودة على المبلغ، فإن نصيب كل فرد في حدود ألف وستمائة جنيه. تتعلق الآمال بهذا المبلغ الشحيح لتجهيز العروسة، وسداد متطلبات الجامعيين وطلبة المدارس من الأبناء، وسد الاحتياج من الطعام، ومتطلبات المنزل، والملابس والدواء.
اثنا عشر فاها ويدا تتطلع لمبلغ عشرين ألف جنيه، وتتصارع قيادتا الأسرتين على قنص المبلغ أو بعض منه أو تأخير سداده، وربما يصل الأمر لسجن إحداهما أو تعرض الأخرى للإيذاء الجسدي أو المعنوي، كما أجابت السيدة صاحبة المال، حينما سألها "الصاوي" لماذا لم تشتك بحق مالها؟! فأجابت: لخشيتها من التعرض للمتاعب وضياع أموالها.. وهو أمر شائع في مجتمع يعلن التدين والإيمان، ولكنه يتباهي دائما فى حكمه وأمثاله بأن: نيْل الحق صنعة! لأنه مؤكد أنه لن يأتي بصفته حق، بل كمكسب متنزع!
والمتأمل للمشهد الرديء، يستطيع أن يستنتج بسهولة غياب طرف أساسي عن المشهد، طرف تشعر بشبحه يظلل المشهد, دون أن يثبت حضوره، يداعب خيالك طيفه، وتراودك ملامحه، ويتردد في أذنيك صدى عباراته المبشرة والمحفزة.
غاب عن المشهد من أقنع كلتيهما وفي مثل ظروفهما، بأن تنجبا عشرة أنفس تقضيان العمر في الشقاء حول إطعامهم وكسائهم ومحاولة إكسابهم مهارات النزاع في مجتمع شحيح المساحات، يرى أن الساذج لا حق له، والماهر عليه تعلم صنعة نيل حقوقه، بتكلفة أكبر من قيمة الحق ذاته!
أين المبشرون؟!
إنهم الآن يقنعون آخرين بالتناسل أو بالتظاهر أو بغرس أساطير مغرضة تملأ الأرض نسلا وزحاما وشجارا وعدوانا، قد يكونون الآن يغسلون أياديهم من مغبة نزاع السيدتين بطلتي الواقعة، بإلقاء اللوم على هؤلاء المقصرين في دينهم.
يعدونهم بأن الإنجاب من شروط الرزق، وأن الله سيغدق عليهم، فإذا ما شُحَّ رزقهم، ألقوا بالذنب على سوء أخلاقهم وقلة تقواهم، وألقوا بعبئهم على حكوماتهم، وانطلقوا يستمتعون بمكاسب دنيوية جنوها بهيئة الكهنوت جالبة الربح الوفير.
المذنب الأكبر مستمر فى تبشيره بمسببات الأزمات دون رادع يوقفه، بل يجد كثيرا ممن يتجاوبون ويدافعون بالمجان عن إجرامه، ويتبنون مذهبه.. إنه يقوم مقام "دكتور جيكل" في النصح والوعظ والتوجيه، ومقام مستر هايد فى التدمير والهمجية والتحرر من القيود والأخلاق، الفارق بينه وبين شخصية الأديب الأسكتلندي "روبرت لويس ستيفنسون" في روايته الخالدة "دكتور جيكل ومستر هايد"، التي تتناول حالة الفصام لشخصية طبيب نبيل مرموق، يتوصل إلى تركيب طبي لعقار يمكن لمتعاطيه فصل جانب الشر من شخصيته، لتنطلق منفصلة عن جانب الخير بداخله!
الفارق أن بطلنا وأصل الأزمة في بلادنا لا يتوارى عن الأعين، حينما يحرر شخصية الشر من ثنايا جوانحه، بل لا يخجل منها إطلاقا، ويصارح من حوله بها، بل أنه في مشهد مهيب يعجز عن إتقانه الشيطان، يتحرر من شخصية الواعظ إلى شخصية المدمر، بينما يرتدي حذاءه على عتب المسجد عقب صلاة الجمعة أسبوعيا، لينطلق في التدمير بما جادت به نفسه، حتى تنتهى نوبة الشر، فيعود إليه هدوؤه، وتدور به دائرته ثانية.. إن "مستر هايد" الشرير فى بلادنا يطلق على شره جهاد وقربى، ولا يتوقف عن الوعظ بالسوء.
الأمراض الاجتماعية ضمن الحلقة المذكورة عديدة للغاية، صراع بدائي من أجل البقاء والحفاظ على النفس والنسل من دون الهلاك، يصاحبه ممارسات للعنف الاجتماعي المعتاد عرفا، قابلة للتطور إلى حدود الجريمة، ومقابلة الجميل بالجفاء والتجاهل، ضياع الحق والارتكان لمفعول الزمن على نفس اليائس وذاكرته، زحام الأفواه حول لقيمات ضئيلة، مأساة شارك فيها كثيرون غادروا المشهد، بعدما ملأوا الدنيا وعظا وحثا على أخلاق مصطنعة.. تركوا وراءهم مشهدا غير أخلاقي، بعضه على الشاشات وبعضه أقسى وأمضى ألما في واقع الحياة، ورحلوا يفسدون بقعة أخرى.
لكن لا يفوتني أن صاحب دور القاضي فى الحلقة، الفنان "خالد الصاوي" أثناء سماعه لدفاع الاثنتين، خاطبهما بعبارة مفادها: أن ظروف البلد الحالية ليست على ما يرام، والسوق ليست بحالة طيبة. في محاولة لمجاراة حديث السيدتين.
ولا يفوتني للقاضي المفترض، منهجه السياسي القائم على الهدم المستمر واستهتاره بتبعات دعوته للعنف، وتهديده السابق بنقل سيناريو ليبيا إلى مصر لانتزاع السلطة، واستخفافه بمصير شعب يقترب من المائة مليون! لكن حمدا لله قد وجد عملا إعلاميا يكفيه العوز، والعجيب أنه يقوم فيه مقام القاضي مباشرة، وليس مقام آخر، كما يقتضي سيناريو الأحداث، فيحدثنا كعاقل مثقف صاحب منبر إعلامي، يضيء لنا حياتنا بالوعي.
لدينا في مشهدنا البائس اثنتى عشرة مأساة، يقوم بالفصل في مصائرهم قاض وهمي كان من أطروحاته السياسية أن تُقذف أحياؤهم بالصواريخ كليبيا، ويعيش أبطالها بالعراء متشردين، وآخر واعظ غائب صاحب رؤية دينية أوهم المأزومين بحله الديني المتمثل فى زيادة أعداد المحتاجين، وحين الحساب اختفى عن المشهد مخلفا وراءه قاضيا محاسبا، يفصل بينهم أحيانا، ويدافع عنهم أحيانا، ويبشرهم بمصيرالحروب الأهلية أحيانا أخرى، وحين الحاجة يجد رزقه فى استعراض أزماتهم على الشاشة.. في حين تنتهي آمال أصحاب المأساة، لأن يجانِبوا خانة الجاني أملا فى نيْل سكينة المجني عليه!