بوكرز| ذهنية المواطن "شمّام الكُلّة" في واحة الغروب
نُشرت رواية واحة الغروب لبهاء طاهر عام 2006، وحازت على الجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر" في نسختها الأولى عام 2008، وهي حالة فريدة من الحالات التي يستشرف فيها الأديب المستقبل، رغم أن موضوعه هو الماضي، أو ربما كان التاريخ هو من يُعيد نفسه، من ثورة عرابي الفاشلة، التي أدت إلى الاحتلال الانجليزي، إلى ثورة 25 يناير التي وقعت بعد نشر الرواية بسنوات.
بطل الرواية، المأمور محمود عبد الظاهر، نموذج للمواطن "شمام الكلة"، تلك الفئة التي بزغت في الأفق السياسي والفكري المصري عقب ثورة 25 يناير، فئة الثائر المحبط، الذي يتمنى تغيير الأحوال إلى الأفضل، لكنه لا يرى المعطيات على أرض الواقع، فيخوض معارك خاسرة، ولا يتوقف عن إلقاء اللوم على الآخرين، ولا عن احتقار ذاته، ولا يقدر حجم الكوارث التي ستعود على الجميع جراء تصرفاته.
محمود شارك في ثورة عرابي، ثم بعد فشلها تبرأ منها في التحقيقات، وظل طول الرواية يلقي باللوم على الأطراف الأخرى، الخديو ومن حوله الذين قامت الثورة ضدهم، أو رفاقه ممن أيدوا عرابي ثم خانوه، أو حتى "الشارع" الذي لم يتفاعل مع الثورة بالشكل الكافي.
ويلخص محمود مشكلته، ومشكلة "شمامي الكلة" في كل العصور (!) قائلا: "المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن. نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن. نصف عاشق. دائما في منتصف شيء ما. تحمست فترة للوطن والثوار، وعندما جاءت لحظة الامتحان أنكرتهم ثم توقفت في مكاني. لم أكن أبدا شخصا واحدا كاملا في داخله. طلعت كان أوضح مع نفسه. ما دام قد خان فليكمل الطريق إلى نهايته. باع نفسه وقبض الثمن الذي يريده. أما أنا فبعت بلا ثمن، وبقيت قانعا بالسخط على نفسي وعلى الإنجليز وعلى الدنيا كلها دون أن أعرف ماذا أريد".
اقرأ مثلا هذا المقطع وفكر كم مرة قرأت مثله على صفحات مواقع التواصل "أي سلاح كان يمكنني أنا أن أشهره في وجه الدنيا بعد أن أغمد الجميع السلاح؟ أسأل نفسي طول الوقت عن الخيانة. سألت نفسي كثيرا لماذا خان الباشوات والكبار والذين يملكون كل شي؟ ولماذا يدفع الصغار دائما الثمن، يموتون في الحرب ويسجنون في الهزيمة بينما يظل الكبار أحرارا وكبارا؟".
كما أن البطل لا يكف عن جلد ذاته، وتصدير صراعه النفسي الداخلي، جراء شعوره بالذنب، إلى صراع خارجي مع كل من يحيطون به، دون مبرر مقنع سوى حالة احتقار الذات والخزي التي يعاني منها.
"ها هي أزمتي... أتباهى أمام نفسي بماضٍ بطولي وأتعمد نسيان لحظة الخزي. أعتبر نفسي في الشرطة مظلوما وشهيدا ولعلي أسوأ الجميع. الضابط المتمرد! المغضوب عليه بسبب ماضيه الوطني أيام الثورة! أعجبني الدور فصدقت نفسي.. انتهى وقت الخداع. ما الذي فعلته أنا بالضبط في الثورة؟ كنت أجري من شاطئ البحر إلى المستشفى لأنقل الجرحى والقتلى، رجال من أبناء البلد يلبسون الجلابيب، لا الزي العسكري، صعدوا إلى الحصون وأطلقوا المدافع مع الطوبجية، حملوا على أكتافهم الجرحى من الجنود ومن إخوانهم الذين سقطوا في القتال لينقلوهم إلى العربات التي كان دورك أن تجري أمامها. نساء من الإسكندرية أيضا فعلن ذلك وصعدن إلى الطوابي وجرحن ولم يعتبرن أنفسهن بطلات ولا شهيدات. عشن في صمت ومتن في صمت فما فعلته أنت بالضبط؟".
وينتهي محمود إلى المصير الدراماتيكي الذي لا يصعب على القارئ استنتاجه بعد قراءة صفحات قليلة من الرواية، فينتحر مفجرا معه أحد المعابد الأثرية، في مشهد رمزيّ بليغ.
أحداث "واحة الغروب" تدور في واحة سيوة، قرب نهاية القرن التاسع عشر، يذهب البطل إلى هناك مأمورا لجمع الضرائب، الوظيفة التي تعرضه لأخطار جسيمة، وكعقاب له من رؤسائه على "تعاطفه" مع الثورة العرابية، ويصطحب معه زوجته الأيرلندية كاثرين، التي تنشغل باقتفاء أثر مقبرة الإسكندر الأكبر.
يستخدم بهاء طاهر تقنية ضمائر السرد المتعددة، فالرواية مقسمة إلى 18 فصلا، كل فصل يرويه أحد الأبطال من وجهة نظره، وهي تقنية صعبة الاستخدام لأنها تجعل الربط بين الأحداث والأشخاص أصعب، ولكن الكاتب استخدمها بأقل الخسائر، واستفاد كثيرا مما توفره من دفع للملل وحفاظ على الصراع لأطول وقت ممكن، لولا أن فصلا جاء على لسان الإسكندر الأكبر، يُعد من أهم عيوب الرواية، فوجوده فيها لم يضف إليها شيئا، رغم كونه فصلا قيّما أدبيا، لو كان قصة قصيرة مثلا.