التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:12 م , بتوقيت القاهرة

الغجر في السينما العالمية (3): ثلاثة أفلام من البلقان

تعددت الرؤى والمداخل السينمائية لمقاربة الشخصية الغجرية، سواء بالعبور السريع والخاطيء أو بالتعمق العاطفي المتوّرط. هنا نستعرض 4 نماذج سينمائية تتبعت العديد من التفاصيل والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لشريحة الغجر، التي تعيش على هامش المكان والبيئة، المتحررة من ضوابط وقيود وقوانين تحكم ركائز المجتمع القاطنة فيه. 


ورغم التباين في أساليب مخرجيها، فإنها شكلت صورا بليغة تجسد واقع هذه الشريحة الإنسانية داخل تحولات جذرية، وتكشف عن طموحات وآمال وعذابات إنسانية تفيض بحرارة التواصل، داخل منظومة من الأحداث والشخصيات في بيئة غجرية أشبه بـ"جيتو"، ونظرة الآخر له كمتمرد على ضوابط المجتمع.


نجحت تلك الأفلام الثلاثة في تسليط الضوء على واقع  متغير، وفي الوقت ذاته، أنجزت في توثيق ذكي محاط ببناء درامي بسيط، يغرف من العادات والتقاليد السائدة في بيئة الغجر، وصورت تلك الأعمال حياة الغجر على أطراف من المدن كفئة مهمشة ومنبوذة من مجتمعها الحاضن، لكنهم في فضاءات الطبيعة يمارسون حياتهم باندفاع وتهور، يتحايلون على صعوبات الشرط الإنساني، ليروا شمس يوم جديد تشرق. وكل ذلك يأتي مصحوبا بطبيعة جذابة وموسيقى وأغانٍ غجرية عذبة وطازجة.


لا يتخلى صناع تلك الأفلام عن تشبيك أعمالهم مع قضايا ساخنة يعيشها العالم من خلال حراك مجموعات الغجر، وما تتمتع به من ألوان الدعابة السوداء والمواقف الطريفة، التي تصل إلى درجة الجنون، بحيث نجحوا في فضح الكثير من ممارسات الواقع وفساده، والتأشير عليه من خلال تناولهم الرائع لثقافة الغجر.


(I Even Met Happy Gypsies (1967


العنوان الإنجليزي للفيلم "قابلت غجرا سعداء"، جاء من عبارة ساخرة في أغنية غجرية تقليدية، للتعبير عن بؤس حياة التشرد والاضطهاد التي يعاني منها الغجر، علما بأن العنوان الأصلي للفيلم باللغة الصربية يعني "جامع الريش". الفيلم لكاتبه ومخرجه ومؤلف موسيقاه اليوغسلافي أليكساندر بيتروفيتش، يسلّط الضوء على حياة سكان قرية غجرية قريبة من العاصمة اليوغوسلافية بلجراد، تتمحور حياتهم الاقتصادية على شراء وبيع ريش الوز. بطل القصة الغجري بورا، تاجر لريش الوز، يقضي معظم وقته في التجول وشرب الخمر ومعاشرة النساء، وهو متزوج من امرأة تكبره، وتمتثل له بطريقة غريبة.


يقع بورا في حب الشابة الغجرية الجميلة "تيسا"، التي يرغمها والدها على الزواج من شاب لا تحبه، وفقا لتقاليد الغجر. ترفض زوجها بداعي عجزه الجنسي. وتستمر العلاقة بين بورا وتيسا اللذين يضطران إلى الفرار من القرية، ويتزوجان على يد راهب في منطقة جبلية. وعندما تقرر تيسا العودة إلى قريتها تواجه المشاكل، فتحاول الوصول إلى مدينة بلجراد على متن شاحنة، ولكنها تتعرض في الطريق للاغتصاب على يد اثنين من سائقي الشاحنات، قبل أن تعود إلى قريتها في حالة بائسة. في غضون ذلك، يدافع بورا عن شرفه بالطريقة التقليدية، ويقتل خصمه طعنا بالسكين، قبل أن يعود هو الآخر إلى القرية.


يقدّم المخرج صورة واقعية لأسلوب حياة الغجر الآخذ بالانقراض، مؤكدا علاقات الحب والعلاقات العرقية والاجتماعية، ويستخدم المخرج الألحان الغجرية ومئات الأشخاص من "المجاميع"، لتعزيز أصالة الفيلم الناطق بلهجة رومانية غجرية، شبه منقرضة، زيادة في الواقعية.


اختار المجلس اليوغوسلافي لأكاديمية الفنون والعلوم السينمائية في العام 1996 فيلم "قابلت غجرا سعداء"، كثاني أفضل فيلم صربي أنتج خلال الفترة  بين عامي1947و1995. 



(Queen of the Gypsies (1976


شكّل ذلك الفيلم لمخرجه الشاعر الروسي إميل لوتيانو وقت ظهوره، احتفاء نادراً وغير مسبوق للسينما بشريحة اجتماعية مهمشة كالغجر، طالما جرى تغييبها عن الشاشة، أو تناولها بشكل سطحي ومزيف في الأفلام القليلة القادمة من أرجاء العالم. 


أحداث الفيلم تترابط في فهم دقيق وحسّاس لمخرجه، ليس لكونه شاعرا فحسب بل لدقة اختياره لواحدة من قصص الأديب الروسي الشهير ماكسيم جوركي، التي ركّزت على أحد طقوس الغجر في الحب والحياة، وتشبثهم بقيم الحرية خلال فترة عصيبة تعود إلى نهايات القرن قبل الماضي.


يسرد الفيلم قصة الغجري الشاب ''زوبار'' سارق الجياد من إسطبلات قوات الإمبراطور الروسي، الذين يسيئون بشكل دائم إلى الغجر الدائمي الترحال والتنقل، وذات مرة يجد زوبار نفسه مصابا بعد مطاردة رجال السلطة لواحدة من تجمعات الغجر، وهناك يتلقى المعالجة والمساعدة، ثم يجد نفسه أمام الغجرية "رادا" التي تظل عالقة في ذهنه بعد رحيله عن جماعتها، ويتملّكه قرار بالعودة للقاءها.


بيد أن الفرصة لا تلبث أن تأتي، ولكنها محملة بالكثير من المفاجآت نظرا لحالة الكبرياء والتحدي التي تتمتع بها شخصية "رادا"، وهي التي طالما واجهت الكثير من المواقف المتشابهة لدي أصناف من الرجال، ليفجّر الفيلم أحداثه بتلك الخاتمة المأساوية، بحسب تقاليد الحب والموت والحياة.


 يكشف الفيلم عن براعة صانعه في تقديم رؤية جمالية وفكرية تنبض بالشغف في الحياة والإبداع، وهي تنقل أجواء القصة إلى الشاشة بذكاء، تحتشد بألوان من مفردات اللغة البصرية والاعتناء الدقيق بالأغنيات والاستعراضات المصاحبة لجماعات الغجر داخل بيئة تحتشد بالمناظر الطبيعية الساحرة، التي تنهل من تضاريس السهول والوديان وحركات الجياد، وفي لحظات الصدام والتلاقي والانفصال معاني ودلالات عميقة مسكونة بالتعاطف الإنساني تفيض بحرارة التواصل، وتفاعل مع أحداثه قطاعات واسعة من عشاق الفن السابع في أكثر من ثقافة وحضارة.


بفضل هذا الفيلم حفظ لوتيانو لنفسه مكانة خاصة على خريطة الفن السابع، حيث استطاع الدخول في عالم شاسع من فلسفة الحياة وتفاصيلها اليومية لدى جماعات الغجر، التي تعيش على هامش المكان والزمان.



 (1980) ?Who's Singin' Over There


في "من يغني هناك؟" يستخدم المخرج الصربي سلوبدان سيجان تنويعات موسيقية يقوم بأدائها عازف غجري على آلة الأكورديون، لترقيم فصول فيلمه العبثي جدا في عرضه لنماذج اجتماعية في رحلة حافلة ركاب، ما بين محطة ريفية والعاصمة "بلجراد" عشية الحرب العالمية الثانية.


وكان لتوظيف العديد من الشخصيات أثرها في إعطاء لمسات حنونة? ودافئة? ولقطات تفصيلية من الحياة اليومية للمجتمع الريفي هناك? حيث كانت الكاميرا تقتنص الكثير من اللحظات واللمسات الجمالية في أتون واقع مأساوي ينذر بالخطر. وأعطت شخصية المغني الغجري ومرافقه الصبي الصغير قدرة هائلة على إضفاء مسحة إنسانية نبيلة في حمى الحرب? خاصة تلك الألحان الغجرية الجميلة التي تتماس مع الحالات العاطفية لشخصيات الفيلم.


نتعرف من خلال مسيرة الحافلة في الفيلم إلى العوالم الطبيعية? الجسور والأنهار والشجر, ويرافق ذلك الكثير من الأحداث المفاجئة الممتعة والعلاقات البشرية المتبادلة في تقلباتها المختلفة? لتمسح عنها ضباب الحرب وآثارها? خاصة وأن الكاميرا تصور مثل هذه الأحداث الحبلى بتغيير جذري قادم? بعدسة تتابع الشخصيات في لحظات حنونة ومفعمة بكل أشكال البساطة اليومية وكل ذلك أثناء رحلة متعبة لحافلة ركاب ريفية.


"من يغني هناك؟" يبقى فيلما سينمائيا مختلفا ودرس أيضا في السينما السهلة الممتنعة والممتعة. وهو إنجاز مهم لمخرجه في تحقيقه لهذا الفيلم الخفيف والطريف وإيصاله إلى آفاق جديدة، أبعد مما قد يبدو للوهلة الأولى لنا من مشاهد وصور وقصة? بعيدا عن الرؤى التقليدية والأنماط المعتادة? خاصة في مشاهد التعاطي مع الأغنيات الغجرية السلسة والغنية بالعبارات التي تحمل هما إنسانيا? والنتيجة فيلم رشيق ومسلي وممتع.