الغجر في السينما العالمية (2): أمير كوستاريتسا
أفلام المخرج الصربي أمير كوستاريتسا، يمكن وصفها بالغجرية، وذلك لروح السخرية والتمرّد والتراجيكوميديا التي تطبع أعماله.
لكن فيلمين فقط من أفلامه، لعب فيهما الغجر دورا رئيسيا في الأحداث. المخرج المهووس بالموسيقى سيجد لهم مكانا في فيلمين يقاربان مجتمعا تصحبه الموسيقى في كل تنقلاته العاطفية والجغرافية. هنا ستجد الكمان والأكورديون يهندسان العلاقة العاطفية بين العازف الغجري وبيئته، ويعملان كمجاز سمعي وبصري عما تفيض به أحاسيس ومشاعر مجموعة بشرية وافرة النشاط.
(Time of the Gypsies (1988
أحد أهم أفلام المخرج اليوغسلافي الكبير أمير كوستاريتسا، وسمح لمخرجه بالحصول على جائزة أفضل مخرج من مهرجان "كان" السينمائي الدولي عام 1989.
يقدّم كوستريكا في "زمن الغجر" جانبا مؤلما من حياة الهامش، يحكي فيه قصة صبي غجري فقير، يجد في الأحلام مساحة لتجاوز واقعه البائس، لكنه يجبر على الانغراس في هذا الواقع عندما تطلب منه جدته مرافقة شقيقته الصغيرة إلى إحدى مستشفيات المدينة، لإجراء عملية تجبير لعظام ساقها المشوهة، بناء على نصيحة من المحتال الغجري "أحمد"، وبنصيحة أخرى من هذا المحتال يتوجه فتى آخر "برهان" إلى إيطاليا، ليقع في قبضة عصابات التسول.
في أكثر من رواية للكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز، ترتبط صورة الغجر بالترفيه والسحر والسيرك. المخرج كوستاريتسا يتجاوز هذا التناول السطحي، وينفذ الفيلم لما وراء الصورة التقليدية عن الحياة البوهيمية للغجر وخروجهم عن القواعد المألوفة، متوغلا بطريقة رأسية في حياة مجموعة من الغجر، نجح في تصويرهم بشكل إنساني مؤثر.
كما عرض حياتهم دون إدانة أخلاقية لافعال يضطرون إليها بدافع الحاجة والعوز، مثل بيعهم أطفالهم لمن يدفع أكثر، وعدم اكتراثهم للمبادئ الأخلاقية التقليدية التي تعارف عليها البشر، لأنهم يعيشون في صراع دائم من أجل البقاء. أسلوب أمير كوستاريتسا في التعبير عن حكايته كان خلاّقا، امتزج فيه السحر بالواقع والحلم في توليفة فنية بديعة، تذكرنا بالواقعية السحرية في الأدب اللاتيني.
كما قدم كوستاريتسا رؤية موسيقية و مسرحية لنفس الموضوع في عرض أوبرا بنفس العنوان “زمن الغجر”، عام 2012، ضمن فعاليات مهرجان الموسيقى في مدينة لامار شرق إسبانيا.
(Black Cat, White Cat (1998
الهيكل السردي للفيلم قائم على حكايات وقصص الغجر البسيطة المرتبطة بالحب والحرية، وبتفاصيل تلك الحياة اليومية المتغيرة. قد يبدو أصل الحكاية مكررا في جزء منها، إلا أن كوستاريكا اعتمد على تلك التفاصيل والمواقف والمفارقات التي تروى من خلالها الحكاية بحس فني عالٍ، حكاية شاب وأبيه وجده يعيشون في بيت بسيط، الشاب "زاري"، مغرم بمتابعة الناس عن طريق المنظار عن بعد ـ وهي تيمة شائعة في أفلام كوستاريتسا ـ والأب "دستانوي"، مشغول بلعب الورق مع نفسه، ساذج عكس ما يبدو، ويوقع نفسه في المشاكل، يشتري غسالة إلا أنها تسقط منه في أعماق النهر، ما يفقده ما يملك من المال، يضطر للتورط في أعمال مع أشخاص مشبوهين، يخسر ما يملك ويصبح مدانا لشخص غجري ثري، هو "دادان" ولايملك ما يسدد له دينه، والآخر بلا قلب يعيش بماله مرفها، يعاقر المخدرات والخمر ويجمع حوله النساء، ولكنه متوّرط بأخواته الثلاث، اللواتي لا يتقدم لزواجهن أحد، بسبب سلوكه وعدم اكتمال أنوثتهن.
يستغل "دادان" الديون المتراكمة على ديستانوي ويعقد معه صفقة مقابل التخلي عن الديون، وهي زواج ابنه "زاري" من إحدى أخواته، إلا أن شقيقته تحب شخصا رسمته في خيالها، و"زاري" يحب فتاة أخرى. يحاول الجميع التملص من هذا الفرض، وهنا يفرض دادان الزواج بوجود عصابته وسيطرته المالية، ورغم وفاة الجد في ذلك اليوم، لا يؤجل الزواج، مما يضطر ديستانوي إلى وضع الجثة بين قوالب الثلج، وتأجيل إعلان الوفاة فيما بعد، إلا أن العروس تهرب بمساعدة "زاري" وحبيبته، لتلتقي بشاب تتعلق به ويقبل الزواج منها، وحيث لايستطيع "دادان" مواجهة والده؛ لأنه يعرف تفاصيل حياة "دادان" وأسراره، لينته الأمر بموافقته على مضض لينته الفيلم بزفاف الأربعة، وسفرهم على ظهر مركب.
صوّر كوستاريكا جانبا مهما من حياة الغجر بصدق وجمالية هادئة، وكأنه عاشها لزمن طويل، متأثرا بتلك الحياة بالقول: "مجتمع الغجر وإنسانيتهم يقدمان ما أنتظره من السينما، شيئاً أكبر من الحياة، كذلك الذي نشاهده في الأفلام الهوليودية القديمة، غير أن الاختلاف بينهما يكمن في أن ما أصوره هو الواقع في حد ذاته".