قبل اختفاء الصحافة الورقية!
طرحتُ سؤالا على 50 من المثقفين.. هل تقرأون الصحف الورقية؟.. تفاوتت الإجابات بين لا قاطعة.. ونعم يوم الجمعة والسبت.. وبدأ أطباء ومهندسون وضباط يسألونني بدورهم.. لماذا نقرأها؟ الأخبار والأهرام والجمهورية أخبارها "محروقة"، وكلها تكرار لنشرات أخبار الإذاعة والتليفزيون في اليوم السابق.
والحقيقة أن معظم صحفنا الورقية رسبت في جذب القارئ الذي يقرأ كل ثانية خبرًا على تليفونه المحمول أو التابلت.. المواقع الإلكترونية للصحف تجتذب قراءً بالملايين.. بينما التوزيع الورقي لا يتجاوز بضعة آلاف.
الصحافة الخاصة هزمت جرائد الحكومة بتطوير إصداراتها الإلكترونية.. الصحافة التقليدية فشلت في تقديم خدمة جديدة لقارئ أدمن على منافسها العتيد وهو الإعلام الإلكترونى بمواقعه والفيس بوك والتويتر.
بالبحث اكتشفت أن القارئ المصري لا يعرف اسم أي كاتب بأي صحيفة.. حتى "هيكل" يعرفونه من التليفزيون.. كان المفروض أن يقدم الصحفيون معلومات وتحليلات لا يقرأها أحد في المواقع الإلكترونية أو يشاهدها في برامج التوك شو .. لكن للأسف بكل صراحة لا يوجد إلا ستة أو سبعة صحفيين لهم جمهور، ولكن يقرأون مقالاتهم من خلال الإعلام الإلكتروني.. نعم هناك استثناءات فالمصري اليوم تطوّرت بسرعة على يد رئيس تحريرها الجديد وتتبادل المركز الأول مع الأهرام بـ 270 ألف نسخة لكليهما، وإن كانت الأولى تتسم بتنوع وحرفية من تستكتبهم، أما الثانية فهبطت من مليون نسخة إلى الرقم السابق.. وهنا قد يسألني أحد إذن لماذا تستمر الصحف في الصدور؟!
والحقيقة أن الإجابة صعبة.. فبينما يرى البعض أنه لا بد من وجود إعلام للدولة وصحافة أخرى تعبر عن رجال الأعمال، يعتقد آخرون أن الإعلانات مازالت هي السبب الأول لصدور الصحف.. فمازالت المواقع الإلكترونية عاجزة عن جلب إعلانات بأسعار معقولة.. المعلنون في مصر لم يخرجوا بعد من أسر الصحف والتليفزيون، بينما تجد الأمر مختلفا في الصحف الإلكترونية الأمريكية والأوروبية، حيث لم تخجل الصحف الورقية من إيقاف نسخها الورقية وسعت بجهد جهيد لتطوير نسختها الإلكترونية.. وسأضرب لكم أمثلة.
توقفت "واشنطن تايمز" بعد تراجع توزيعها إلى 58 ألف نسخة وطردت 40 % من موظفيها ويعلم الباقون أن قرارات الطرد تنتظرهم.. ولحقت الصحيفة بشقيقاتها كريستيان ساينس مونيتور وشيكاغو تربيون.. وكانت صحيفة "واشنطن بوست" الشهيرة قد أغلقت كل مكاتبها خارج العاصمة الأمريكية بسبب خسائر التوزيع التي وصلت إلى 168 مليون دولار كما باعت الشركة المالكة لأشهر صحيفة أمريكية "نيويورك تايمز " مقرها الشهير مقابل 225 مليون دولار في صفقة تشمل استئجارها للمقر بإيجار مبدئي 24 مليون دولار سنويا قابلة للزيادة على مدى 15 عاما.
الثورة التكنولوجية قتلت الصحافة الغربية رغم أنها أكثر تنظيما من صحفنا وأكثر شفافية ودراسة لأحوال السوق.. الخطورة أن صحفنا مازالت تدفن رأسها في الرمال وتراهن على البقاء.. بينما الصحف الخاصة طورت مواقعها الإلكترونية وبعضها تعدى الـ2 مليون مشاهد أو قارئ، ومازالت الصحافة التقليدية الحكومية على رتابتها وصياغتها الإنشائية ومقالاتها التي تشبه موضوعات التعبير في امتحانات الإعدادية.
قطعا لا أتمنى اختفاء الصحف المصرية خصوصا القومية.. لا أريد لها أن تلحق بفيلادلفيا ديلى نيوز ومينابوليس ستار وميامى هيرالد وديترويت نيوز وبوسطن جلوب وسان فرانسيسكو كرونيكل وشيكاغو صن وغيرها من قائمة بها 100 صحيفة أمريكية.
خطر الانقراض يواجه الصحافة الورقية.. وسينتقل مفهومها واسمها إلى المواقع الإلكترونية، فهذا قدر لا ينفع معه التذرع بأن القارئ لا يزال حريصا على صحيفته.. القراء التقليديون يندثرون والنسبة العظمى من الشباب يفضلون الإنترنت.. الأمل الوحيد للصحافة الورقية أن تعود لتحقيق انفرادات تهم الناس وخدمات تجعل القارئ يبحث عنها.
الصحف الورقية إذا لم تبتكر أخبارا بعيدا عن الوزارات والتصريحات والإنجازات والحكومة مآلها إلى زوال.. ثم أن الأمل الأخير لهذه الصحف أن يتم الاتفاق بين الجميع على بيع خدمات الأخبار المميزة والانفرادات عبر الإنترنت وإلا تترك مجانية كما هو الحال الآن بسبب اعتبارات المنافسة.. حينئذ يمكن للصحف التي ستتحول لإلكترونية أن تتلقى موارد معقولة يمكن أن تمول أنشطتها في تغطية الأحداث.. تغطية الأحداث لن يستغنى عنها أحد أبد الدهر.. لكن بشرط السرعة.. والانفراد والصياغة التلغرافية ذات الحس الأدبي.. والمعلومة الجديدة على أن تتخلص من الأخبار الرسمية التي يشك الناس في صحتها والإنجازات التي لا يشعر بها أحد.
على الصحافة الورقية أن تلتزم بالواقعية وليس بمعارك دون كيشوتيه لا طائل منها .. فالذين هاجموا – مثلا – سد " النهضة " بإثيوبيا يقولون إنه يذكرهم بمرسي والإخوان منطقهم عقيم.. وعندما وقع الرئيس السيسي اتفاقًا ثلاثيًا بين مصر والسودان وإثيوبيا انقسمت الصحف، فالبعض رآه مماثلا لإنجاز السادات الذي ذهب للكينست الإسرائيلي وآخرون ذهبوا إلى أنه مشابه لدور عبد الناصر في إفريقيا.. مع أن بعض العقل يقول إن إثيوبيا انتهت من 40 % من السد وأنه أصبح أمرا واقعيا.. والعبقرية أن تتفاوض على المستقبل بمعطيات الحاضر وهو ما فعله السيسى وليس بمقارنات مع الماضي .. مثلا بعد المؤتمر الإقتصادى بشرم الشيخ هاجم كتاب السياحة " العائمون على وش الفتة " - كما يقولون- قرار مصر بمنع منح التأشيرات بالمطار أسوة بالدول الأخرى.. وقال المستفيدون من جنة "السياحة والطيران" إحنا "مصدقنا " السياحة بدات: تنقط " علينا، حتطفشوهم تاني.. ونسى هؤلاء أن السائح المحترم القادم في فوج سياحي تتولى شركته أمر التاشيرات والزيارات وتذاكر المتاحف من الأساس.
إذا أرادت الصحف الورقية ارتداء طوق نجاة فعليها أن تعود إلى بدايتها عندما كانت المصدر الوحيد للأخبار.. حيث لم يكن هناك إنترنت وتكنولوجيا وإلكترونيات وخضعت لمقص الرقيب طويلا ومع ذلك كانت تنفرد وتهرب من القوالب الرسمية وتخترع أبوابا جماهيرية وخدمات.. مازال الباب مواربا فأسرعوا قبل أن يغلق تماما.