ملاحظات حول فوز "الخروج للنهار" بجائزة النقاد
خلال الأسبوع الماضي عقدت جمعية نقاد السينما المصريين اجتماعها السنوي لاختيار أحسن فيلم مصري وأحسن فيلم أجنبي تم عرضهما في مصر خلال العام الماضي 2014. الاجتماع الذي انتهى بمنح الجائزتين لفيلمي "الخروج للنهار" لهالة لطفي و"فندق بودابست الكبير" للمخرج ويس أندرسون. اختياران واقعيان ويتسمان في رأيي بالتماشي مع من يُفترض أن ترتبط به جائزة تحمل اسم النقاد، من انتصار للتجارب الجادة والمغايرة على صعيدي الصناعة والمحتوى. وأقصد بالتحديد فيلم هالة لطفي الذي تعرض لظلم فادح من قبل لجنة تحكيم المهرجان القومي للسينما ومهرجان جمعية الفيلم لحساب أفلام ذات سمات أكثر تجارية. ولن أقول إن نفس الظلم طاله في جوائز المركز الكاثوليكي، فهي جوائز كوميدية تُمنح للأفلام طبقا لما ترسخه من أخلاق قويمة، وتستبعد الأفلام الجيدة إن لم تكن أخلاقية، لذا فمن الأحرى أن يناقشها رجال الدين أو علماء الأخلاق، وليس صناع السينما ونقادها!
حيثيات "مرافعتي" عن الخروج للنهار، واستخدم الكلمة على سبيل الدعابة طبعا لأن الفيلم لا يحتاج لمرافعة، ولكن لكي أوضح أنّي كنت ضمن الفريق المنحاز لمنح الجائزة لفيلم هالة لطفي، الذي نال في النهاية أغلبية كبيرة ضمن الحضور المحدود ـ سنعود لهذا لاحقا ـ من أعضاء الجمعية. حيثيات ترجيحي للفيلم واعتباره عملا مثاليا لحمل جائزة النقاد، هي أنه عمل ينتصر ليس فقط لفن السينما بشكل عام، ولكن لفن النقد كذلك، عمل يمنح الناقد فرصة نادرة لاستخدام ملكاته النقدية، إن وجدت.
ففي ظل اتهامات دائمة يتم توجيهها للنقاد باعتبارهم يكتبون نقدا لسيناريوهات الأفلام وليس للأفلام نفسها. بمعنى أن النقد يتعلق بمزايا السيناريو وعيوبه، ورموزه ودلالاتها، ويهمش لحساب ذلك لغة السينما وأدواتها الأسلوبية. والحقيقة أن هذا بالفعل ما يحدث ولكن لأسباب لا علاقة لها بمن يكتب عن الفيلم قدر ارتباطها بالفيلم ذاته، فالنسبة الأغلب من الأفلام المصرية هي أفلام سيناريو بالأساس، تدور بالكامل حول الحكاية ويتحول دور المخرج فيها إلى الوصول لطريقة يروي بها قصته بصورة جيدة ومتماسكة بصريا ودراميا.
لا أقول إن هذا أمر خاطئ فهو في النهاية النوع السائد لصناعة السينما في كل مكان، لكنّه حقا نوع تتضاءل فيه قيمة الحديث عن أي شيء بخلاف النص ودلالاته، خاصة إذا ما كان الناقد زاهدا في الأوصاف المبهمة من نوعية "كان التصوير متميزا وكان المونتاج سلسا"، والتي يعتقد من يستخدمها أنه يتحدث عن لغة السينما وهو بعيد كل البعد عنها.
جائزة هالة لطفي إذن هي انتصار للسينما وللنقد قبل أن تكون إعادة اعتبار للفيلم الذي ظلمته الجوائز المصرية. هي انتصار لقاعدة أساسية هي أن الفيلم الجيد هو العمل الذي لا يمكن أن تروى حكايته لفظيا، فعناصر صناعته (التصوير - المونتاج - التمثيل - الإضاءة - الصوت - حركة الكاميرا) ليست مجرد أدوات لإيجاد معادل بصري لقصة، وإنما هي مكونات عضوية للفيلم ذاته، يستحيل تصور تنفيذه أو تلخيصه بعيدا عنها.
بخلاف جائزة "الخروج للنهار" وما تعنيه، هناك ثلاث ملاحظات مهمة يجب الإشارة إليها انطلاقا من الاجتماع ومناقشاته..
أولا: السينما المصرية عاشت عاما جيدا برغم كل الصعوبات على الصعيدين الرقمي والفني. رقميا بعرض 36 فيلما روائيا طويلا خلال العام وهو رقم جيد ومتصاعد، وفنيا بتواجد نسبة محترمة من الأفلام الجيدة، أربعة أفلام دخلت للتصويت النهائي هي "الخروج للنهار" و"فتاة المصنع" و"الفيل الأزرق" و"ديكور"، وأفلام أخرى جادة وإن لم تصل لنفس المستوى مثل "لا مؤاخذة" و"الجزيرة 2". وإذا كانت النسبة المثالية لصناعة صحية هي أن يكون 5-10% من إجمالي الإنتاج أفلام متميزة وصالحة للتنافس، فقد عشنا رغم كل شيء عاما أكثر من صحي فنيا.
ثانيا: شبكة التوزيع المصرية عشوائية ومتخبطة ومسيئة. فيلم هالة لطفي نال جائزة أحسن مخرج من العالم العربي في مهرجان أبو ظبي عام 2012، لكنه اضطر للبقاء حتى يجد فرصة للعرض في 2014 لنناقشه في مارس 2015 بعد قرابة الثلاث سنوات من عرضه الأول. وفيلم "باب الوداع" لكريم حنفي المتوج بجائزة الإسهام الفني من مهرجان القاهرة الأخير يعاني من أجل إيجاد فرصة ملائمة للعرض وسط سوق لا يرحب بأي شكل مغاير من الأفلام. لذلك كان من المنطقي أن تقوم الجمعية بالتنويه في اجتماعها بدور قاعة سينما "زاوية"، التي صارت بالفعل متنفسا يجد فيه محبي السينما فرصة لمشاهدة أفلام يلفظها السوق التقليدي صاحب النظرة الضيقة جدا فيما يتعلق بسياسات التوزيع، وأعني السياسات الفنية والتجارية معا (وليس التأخر في عرض الأفلام المتوجة بالأوسكار إلى ما بعد انتهاء الحفل ومشاهدة الآلاف للأفلام بنسخ مقرصنة إلا دليلا على هذا التفنن في صناعة الفشل).
ثالثا: من بين حوالي المائتي عضو لجمعية النقاد، لم يحضر النقاش والتصويت للجائزة سوى 14 عضوا فقط، يتصدرهم الناقد الكبير سمير فريد ورئيس الجمعية محسن ويفي. أمر لابد وأن يعطي إشارة لمدى جدية بعض النقاد في التعامل مع المهنة. هناك بالطبع ظروف شخصية ومهنية قد تمنع البعض من التواجد، لكن ألا يكمل الحضور حتى 10% من أعضاء الجمعية المخُطرين بكل السبل الممكنة فهذا أمر يحتاج لوقفة، تحديدا مع عدد الأعضاء الضخم من غير الناشطين أو الممارسين للنقد بشكل دوري (وهو من شروط الانضمام للجمعية). فعندما يكون عدد أعضاء جمعية نقاد لوس أنجلوس هو 54 عضوا، وجمعية نقاد نيويورك 34 عضوا (طبقا للمواقع الرسمية)، بينما تمتلك الجمعية المماثلة في مصر مائتي عضو، فهي مفارقة حقيقية لها الكثير من الدلالات.