عن سب البرغوث ولعاب الكلب.. أغرب فتاوى كتب التراث
ترددت عبر التاريخ الإسلامي بعض الفتاوى الفقهية الغريبة والصادمة في كتب التراث، حتى دعت الحاجة إلى كتابة مؤلفات ودراسات عدة لرصدها وبيان مدى صحتها.
"دوت مصر" يعرض بعضا منها، من أجل كشف الجوانب المجهولة للكتب التراثية، التي تستند عليها بعض الفتاوى حتى عصرنا الحديث.
تقتضي المسألة أن نبدأ بالكتابين الرئيسيين اللذين اجتمع المسلمون تقريبا على صحة ما ورد فيهما، ويقول يحيى بن شرف النووي "أجمعت الأمة على صحة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما".
البخاري
في (البخاري كتاب الطب /58)، نجد الحديث الشهير "حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عتبة بن مسلم مولى بني تيم عن عبيد بن حنين مولى بني زريق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء".
وهو الحديث الذي أنكره الكثير من المفكرين والعلماء، منهم على سبيل المثال الدكتور محمد توفيق صدقي، الذي نفى صحته في مجلة "المنار"، ورشيد رضا في نفس المجلة، قائلا "حديث الذباب غريب عن الرأي والتشريع جميعا، ولم نر أحدا من المسلمين، ولم نقرأ عن أحد منهم العمل بهذا الحديث، وإنني أعلم أن ذلك المسلم الغيور لم يطعن في صحة هذا الحديث إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التي تنفر الناس من الإسلام، وتكون سببا لردة بعض ضعفاء الإيمان".
النهي عن سب البرغوث
كما ورد في الأحاديث أيضا أن النبي كان قد نهى عن سب البرغوث، حيث إنه أيقظ نبيا من الأنبياء لصلاة الفجر، "روى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والبزار والطبراني في الدعاء، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا فقال: لا تسبه، فإنه أيقظ نبيا من الأنبياء لصلاة الفجر".
مسلم
هو أحد أهم كتب الحديث النبوي عند المسلمين، واستندت إلى أحد أحاديثه الفتوى الشهيرة الخاصة بـ"إرضاع الكبير"، التي ظهرت منذ أعوام، مستندة إلى ما ورد فيه من أنه "عن عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرضعيه، قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت أنه رجل كبير - زاد عمرو في حديثه وكان قد شهد بدرا- وفي رواية بن أبي عمر: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم". (مسلم: الرضاع، رضاعة الكبير).
أثارت الفتوى جدلا واسعا، وأصابت الكثيرين بالصدمة من وجود مثل هذه الأحاديث في كتب التراث، وهو الموقف الذي يدفع البعض إلى رفض مثل هذه الأحاديث برمتها، ويدفع الآخرين إلى تبريرها والبحث عن مخارج منطقية لمعضلة غرابتها.
رد الأحاديث ورفضها
رغم الهجوم على من يقدم بهذا الفعل اليوم، رد الإمامان أبوحنيفة ومالك، الكثير من الأحاديث، فالإمام مالك رد بشكل قاطع حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا (البخاري كتاب الوضوء ومسلم كتاب الطهارة)، قائلا "يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟". ولكن على الجانب الآخر، كره الإمام مالك معانقة القادم من سفر، وقال إنها "بدعة".
أما الإمام أبوحنيفة وهو أشهر المخالفين، فرد بعنف وحدة بعض الأحاديث، بل ووصف حديث "رضخ رأس اليهودي بين حجرين" الموجود في صحيح البخاري في 6 مواضع وصحيح مسلم في كتاب القسامة والمحاربين، بأنه "هذيان"!
موسى وملك الموت
من ذلك أيضا الأقاويل عن لطم موسى عين ملك الموت وفقئها لأنه يرفض الموت، وهو من أغرب ما قيل استنادا إلى كتب التراث، وتحديدا في (البخاري كتاب الجنائز /69)، وهو ما رفضه الشيخ الغزالي في كتاب، "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، بمبرر أن الحديث صحيح السند، لكن متنه يثير الريبة.
ابن حزم الأندلسي
أما ابن حزم، فقرأنا عنه الكثير ، فعلى سبيل المثال، قال النووي على لسانه في المجموع (1/ 119)، "ويجوز لغيره لأنه ليس بنجس عنده ولو بال في إناء ثم صبه في ماء أو بال في شط نهر ثم جرى البول إلى النهر، قال يجوز أن يتوضأ هو منه لأنه ما بال فيه بل في غيره، قال ولو تغوط في ماء جار جاز أن يتوضأ منه لأنه تغوط ولم يبل".
ذهب ابن حزم الظاهري إلى التفريق بين أن يبول مباشرة وبين أن يبول في الإناء ثم يلقي بوله في الماء، قال لأنه لم يبل في الماء وإنما بال في الإناء، وذلك في مسألة "كَرَاهِيَةِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ"، وهو ما استنكره الكثيرون بسبب إهداره للعلة الشرعية المفهومة من النصوص، والشرع يقصد المعاني كما يقصد الألفاظ.
وكذلك لابن حزم، كتاب (المحلى / ج11 / ص250 و 251 / ط دار الفكر بتحقيق أحمد شاكر)، ورد فيه "إن أبا حنيفة لم ير الزنا إلا مطارفة، أما لو كان فيه عطاء واستئجار فليس زنا ولا حد فيه، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور وأصحابنا وسائر الناس هو زنا وفيه الحد، وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا وهما في أمن من الحد بأن يعطيها درهما يستأجرها به، ثم علموهم الحيلة في وطء الأمهات والبنات بأن يعقدوا معهن نكاحا ثم يطأونهن علانية آمنين من الحدود".
وهو ما يربط كبيرة الزنا بالمال، أما إذا كان مجانا فهو ليس بزنا. كما يحتوي الكتاب على غيرها الكثير من الفتاوى الغريبة التي لا توجب الحد على الاستمناء، ونكاح المحارم، والزنا بالخادمة.
الجرأة والرفض
"الغثاء الأحوى في لم طرائف وغرائب الفتوى"
صدر عن المركز الثقافي العربي، ويحتوي بشكل عام على طرائف وغرائب الفتوى، قدمه الكاتب السعودي أحمد عبدالرحمن العرفج، بعنوانه المسجوع على غرار الكتب التراثية الكبيرة. الكتاب مكون من مقدمة و7 فصول طويلة، وهدفه رصد أغرب ما دوّن في كتب التراث والتحذير من التسرع في إصدار الفتاوى، والاستشهاد بالسلف المتريث والمتأني في إصدار الفتوى. كما اهتم الكاتب بعرض وانتقاد ميل الفقهاء والعلماء لضرورة تغير الفتوى بتغير الأحوال والعودة إلى المصالح.
الجوزي
والحافظ بن الجوزي أيضا خصص بابا كاملا في كتابه "أخبار الحمقى والمغفلين"، بعنوان "المغفلين من رواة الحديث وتصحيفه"، من أجل ملاحقة الأحاديث الغريبة، والحمقى من رواة تلك الأحاديث. والكتاب نفسه يجمع حكايات ونوادر عن المغلفين والحمقى في التاريخ العربي، ويعد دراسة اجتماعية شاملة عن شريحة من الناس في فترات زمنية معينة.