ما وراء "المُحن" المستغانمي في فوضى الحواس
نجحت ثلاثية أحلام مستغانمي الشهيرة، "ذاكرة الجسد، فوضى الحواس، عابر سرير"، في الحفاظ على مكان مميز في رفوف "البست سللر" العربية لفترة طويلة، بل إنها نجحت في التأثير على جيل كامل من الكتاب، بعد أن مزجت باقتدار بين قصيدة النثر والنص الروائي.
ورغم أن الثلاثية بأكملها تندرج تحت مسمى الأدب النسائي، إلا أنني أختار فوضى الحواس تحديدا لأن ضمير السرد فيها هو البطلة "حياة"، ولأنها تعيد طرح السؤال الأهم في الرواية النسائية، بقدر كبير من النضج هذه المرة، سؤال امتلاك المرأة لجسدها، وإذا كان فعلا "يخصها" أم يخص أبيها وأخيها، وتنتقل ملكيته إلى الـ"مشتري" بعد الزواج.
ليست رواية مراهِقة ولا "ممحونة" وفقا للتعبير المصري الدارج، بل إنها نجحت في تجاوز الإرث الرومانتيكي الثقيل الذي ناء به الأدب النسائي العربي منذ نشأته، وتقرر ـ بوضوح ـ أن تنفض الغبار الأخلاقي عن الأدب، الذي لطالما قيس وقُيّم ونُقد من منظورات أخلاقية.
الكاتبة "حياة"، تزوجها أحد كبار العسكريين الجزائريين، على زوجته الأولى، وبعد بضع سنوات من الزواج تلتقي صحفيا غامضا، قرأ إحدى رواياتها وقرر أن يتلاعب بها، ولكنها تحبه بطريقتها، وتحب صديقه معه، وتتلاعب أحداث الرواية بثلاثتهم.
تحطم أحلام مستغانمي تابوهات "الإخلاص الزوجي" و"الإخلاص العاطفي"، وتحطم نموذج المرأة المُحبة المجللة بالإثم والعار جراء الخيانة الزوجية، وتؤسس بدلا منه نموذج المرأة الواضحة المتصالحة مع طبيعتها ونداءات جسدها، والتي لا تحتاج إلى غطاءات رومانسية تبرر بها حاجاتها، فعندما يدعوها الصحفي ـ مجهول الاسم ـ إلى بيته يقول: "لا أعدك بشيء عدا المتعة.. وستأتين" وتذهب.
ويحاول البطل أن يسرّب فلسفته العاطفية لحياة، يحاول أن يقنعها بالوفاء له.
"ـ بيننا وبين المتعة مفتاح لا أكثر. ولكنني أرفض أن يتحكم هذا المفتاح فينا. وإلا فسيكون في هذا إهانة للحب. أنا لا أقل عنكِ اللحظة رغبة ولا اشتهاء بل إنني أحوج منك إلى الحب، من حاجتك أنت إلى هذا الحب وهذه المتعة ذاتها. ولكن عندما نبلغ ذلك القدر المخيف من اللذة، كل متعة لا تزيدنا إلا جوعا. وعلينا الآن أن نجرب لذة الامتناع، لنتصالح مع أجسادنا، لنعرف كيف نعيش داخلها عندما لا نكون معا.. ولنكتشف جمالية الوفاء عن حرمان..".
ولكنها لا تقتنع بشيء من ذلك!
وقبل أن تنتهي قصتهما بقليل، تكتشف أنها مغرمة من البداية بصديقه عبد الحق، الذي يتعرض للاغتيال على يد إسلاميين متطرفين.
"تلك المرأة التي كان لها في حياته دائما ذلك الحضور السري النكرة، كيف له أن يدري ماذا فعل بها موته؟ هي التي عاشت في بيته، ونامت في سريره مع صديقه، وتحدثت مع رجل غيره على هاتفه، وطالعت دون علمه، كتابا كان يحمل هواجسه، واستعملت عطرا كان له، وتقاسمت معه في عتمة قاعة سينما، اشتعالا مباغتا للرغبة، ولحظة بكاء، وتبادلت معه على بعد طاولة في مقهى، ذبذبات حديث لا يقال إلا صمتا!
فماذا أفعل اليوم بحزني؟
هل أمارس الحب إذن؟ ومع من؟ وكيف لي أن آتي المتعة بذريعة موت رجل تمنيت أن أكون له يوما.. ولم أكن؟تلك الرجولة التي جلست باستفزاز صامت بمحاذاة أنوثتي، تلك التي أردتها ولو لمرة واحدة.. استكثرتها عليّ الحياة وقدمتها وليمة للديدان. وذلك الجسد الذي اشتهت شفتاي أن تغطياه قبلا، بعد حين سيغطيه التراب، ولم يعد بإمكاني أن أشعله ولو وهما. لقد دخل عالم الصقيع".
الأهم من كل ذلك، هو أن الرواية لا تنتهي بفاجعة تحل على البطلة، لتحقيق العدالة السماوية على المارقة التي لم تلتزم بما كان يجب عليها أن تلتزم به، وفقا للتقاليد الروائية العريقة، "آنا كارنينا، مدام بوفاري، الزنبقة الحمراء….".
تسبب الرواية للقارئ حالة من الالتباس والغموض من اللحظة الأولى، الأمر الذي يعوض ـ قليلا ـ غياب الحبكة وندرة الأحداث، في زخم التداعي المسترسل للسرد، وإن كان بلغة شعرية جذابة، جعلتها مصدرا رئيسيا لصفحات الاقتباسات العاطفية على مواقع التواصل.
الأمر المؤسف فعلا، هو لجوء الكاتبة لتكرار تفاصيل ذاكرة الجسد، بدءا من قصة الحب الثلاثية، حياة والرسام خالد بن طوبال والشاعر الفلسطيني زياد، ومرورا بوفاة الصديق في كلتي الروايتين (زياد وعبد الحق) والمسائل السياسية التي طغت على النص الروائي وأثقلته، وختاما بالنهاية المفتوحة.
فحتى صحفي "فوضى الحواس" في سَورة الوجد، يقتبس أجزاء من القصائد التي سبق لزياد أن كتبها لحياة في ذاكرة الجسد.
لا تملك الأشجار إلا
أن تمارس الحب واقفة
أيضاً يا نخلة عشقي.. قفي
وحدي حملت حداد الغابات التي أحرقوها
ليرغموا الشجر على الركوع
"واقفة تموت الأشجار"
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيّع فيك رجولتي
إلى مثواها الأخير..
لم يبق من العمر الكثير
أيتها الواقفة في مفترق الأضداد
أدري..
ستكونين خطيئتي الأخيرة
أسألك: حتى متى سأبقى خطيئتك الأولى؟
لك متّسع لأكثر من بداية
وقصيرة كل النهايات
إني أنتهي الآن فيك
فمن يعطي للعمر عمراً
يصلح لأكثر من نهاية؟