ألف مشهد ومشهد (3)
مكنش المطلوب من مشهد اغتيال الضحية في فيلم "ريا وسكينة" إنه يكون مشهد دموي، في الوقت ده كانت لسه السينما بـ تفكر في تأثيرها على المشاهد، وتحاول تحافظ على رسالة أخلاقية ما، فـ الابتعاد عن بشاعة القتل ضروري، لكن في نفس ذات النفس كان مطلوب يكون مشهد مقبض قدر الإمكان ينقل الحالة حتى لو ما صورهاش، من هنا كان الإيقاع.
صلاح أبو سيف أصلا مونتير، وأصلا أصلا كان بـ يشتغل في شركة غزل المحلة اللي أسسها طلعت باشا حرب، وطلعت باشا هو مؤسس استوديو مصر برضه. نيازي مصطفى كان سبب في إن أبو سيف يتنقل من الغزل للاستوديو، وبعتوه أوروبا يتعلم، ورجع اشتغل في قسم المونتاج، لـ حد ما بقى رئيس القسم.
المونتاج من فنون السينما المهدور حقها، كل الناس بـ تتكلم عن كل حاجة تقريبا: سيناريو، حوار، تمثيل، إضاءة، مزيكا، ديكور، ملابس، مؤثرات، كله كله. لكن المونتاج محدش بـ يجيب سيرته، والناس غالبا بـ تتعامل معاه على إنه قطع المشاهد اللي مالهاش لازمة، أو المشاهد الخارجة، مع إني بـ اعتبر المونتاج في مقدمة فنون السينما والدراما عموما.
المونتاج هو اللي بـ يخلق إيقاع الفيلم، هو اللي يخليه ممل أو ممتع. والمخرج لو مش مهتم بـ المونتاج، وفـ دماغه هـ يعمل إيه بـ الظبط في الأوضة قدام مكنة التقطيع أيا كانت، مش ممكن يعمل فيلم مظبوط. ولأن أبو سيف مونتير كبير كان الإيقاع في أفلامه متميز، وكانت أفلامه نفسها ممتعة إلى حد كبير.
في المشهد اللي معانا، استعان أبو سيف بـ غنوة، كتبها ولحنها اتنين كبار بيرم التونسي وأحمد صدقي، وغناها شفيق جلال هي غنوة "بنت الحارة" الشهيرة بـ اسم "الملاحة الملاحة" وفي قول آخر "حسرة عليها يا حسرة عليها".
مونتير الفيلم كان إميل بحري والمصور وحيد فريد والديكور ولي الدين سامح، وبقيادة صلاح أبو سيف صوروا مشهد الاغتيال مع الغنوة بـ طريقة تدرّس، المشهد اتعمل بـ طريقة تصاعدية على تلات مراحل:
الأولى، بداية الغنوة على إيقاع قاعد. والتانية من أول ما ريا بـ تدخل بـ كوباية الشربات اللي فيها المنوم، وبعدها العصابة تدخل بـ الدفوف مع جملة الملاحة الملاحة. والتالتة والمطرب بـ يغني: "وأنا إيه ذنبي أنا إيه ذنبي حدفت لي المنديل البمبي". فـ ريا تهز القنديل، وتتنقل الغنوة لـ مرحلة جديدة: "فين أراضيها؟ فين أراضيها؟ فايتانا يا حسرة عليها" فـ الكورال يمسك في جملة "حسرة عليها"، ويبقى عندنا كورال مجنون متسارع بـ يصرخ، والمطرب عنده خط تاني فيه مرثية للذبيحة.
النقل من مرحلة لـ مرحلة بـ يحصل معاه تصاعد في الإيقاع، وتصاعد في المونتاج مع زيادة النقل بين اللقطات، يعني في الجزء الأخير بـ نتعامل مع أجزاء من الثانية للقطة الواحدة، والتفاصيل بـ تبقى كتير كتير، في حالة تخلق دوخة زي جلسات الزار.
وفي كل المشهد من أوله لآخره كل حاجة بـ تتحول لآلة إيقاع: مشية ريا، خطواتها ع السلم، حركة لاي الشيشة، آلات الحفر اللي العصابة بـ تحفر بيه قبر الضحية، حركة الدف يمين وشمال صعودا وهبوطا، غليان براد الشاي، رجلين واحد على مكنة بـ تسن سكين لـ دبح خروف، وطبعا القنديل، حتى النظرات، كل حاجة ماشية مع الإيقاع بـ تناغم مذهل، والحقيقة كل ده مستوعبه، لكن ازاي غليان براد شاي يبقى ماشي مع الإيقاع، دي إجرام.
الكبيرة بقى هو ازاي وحيد فريد قدر يصور المشهد من خلال عينين زينات علوي (الرقاصة الضحية) اللي هي المفروض سكرت وبـ تتطوح على إيقاع الغنوة، يعني ازاي الكاميرا قدرت تعمل الحركة دي؟
اللي أعرفه إن الحاج وحيد جاب قروانة من بتوع الأسمنت وقعد عليها بـ الكاميرا، وخلى حد يهزه وهو بيصور هزات محسوبة بـ عدات الإيقاع، ودي كانت المحاولة رقم تسعة لـ تصوير المشهد بـ استخدام حاجات مختلفة.
مش محتاج طبعا أقول المشهد ده فضل خالد ازاي، ولا اتعمل عليه بارودي في كام فيلم، كفاية مشهد النهاية في فيلم "العار".
وحسرة عليها يا حسرة عليها
مشهد من فيلم ريا وسكينة
خلينا بقى نشوف مشهد جديد المرات الجاية