التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 06:58 م , بتوقيت القاهرة

يارب تكثر أعيادنا

حين ترتقي الإنسانية إلى أعلى درجاتها، حينها لا يعود هناك حاجة لتخصيص أيام معينة للاحتفاء بالمناسبات، حين تنطبق الإنسانية بمفهومها السامي، حينها تصبح كل أيامها أعياد دون الاحتفاء بحدث معين أو التحفيز للتذكير به، حينها يكون رد الاعتبار والجميل للأمهات طوال العام، والاحتفاء بالحب على مدار العام.


حين نصل للدرجة التي يرسخ فيها لدى الجميع بديهية أن المرأة إنسانا كاملا وفقط، حينها لا نكون محتاجين ليوم نجهز فيه كشف حساب بما أنجز وما تعثر، ولا نحتاج أن نُذًكر. لكن حتى حينه فلا بأس من الاحتفاء والاحتفال والتذكير بكل ما هو جميل، وبكل ما يمكن أن نعلن أننا نحتاجه، فازدياد الأعياد والاحتفالات والمهرجانات أمر إيجابي على كل حال.


لكن هناك من يعارضون فكرة هذه الأعياد، أحيانا أجدني أتحفظ على مناسبة ما تحديدا دون أن يعني ذلك أنني ضد مشاركة الكون احتفالاته ومناسباته، فعلى سبيل المثال لدي رؤيتي الخاصة لمناسبة عيد الأم، فمن جهة أرى فيها نوعا من التمييز داخل قطاع المرأة نفسه، إذ يعطي ميزة إيجابية للمرأة الأم على غيرها، وفي مجتمعاتنا التي بالأصل لديها صورة راسخة عن وظيفة المرأة كأم وفقط، فإن الأمر يأخذ أبعادا أكثر.


ومن جهة أخرى أرى فيه يوما أليما لكل من فقد أمه، وليس هناك أصعب من مرارة فقدان الأم، فمنذ بداية الشهر يستذكر هؤلاء مرارة الحرمان، الكبار يتألمون، فكيف الحال بالأطفال في المدارس، يمر في ذاكرتي دوما حديث صديقة لي فقدت والدتها في الطفولة؛ وهي تقول:" كان هذا اليوم أبشع يوم يمر على في العام فترة الدراسة، منذ مطلع مارس وأنا أظل اتهيبه".


وعلى الجانب الآخر فيه تذكير لكل من حرمت هذه النعمة بأنها أقل وأنقص من غيرها، ومن جهتي دائما في عالم المرأة لا أرى هناك حاجة لإثارة التمييز أكثر أو التذكير بالنقص أكثر وأكثر، يكفي أنهم يميزون المرأة غير المتزوجة عن المرأة المتزوجة، ثم المرأة المطلقة وهي حالة خاصة، والمرأة الأم وهي في أعلى الهرم، وحتى المرأة الأم فلها مواصفات خاصة، إذ يجب أن تتحلى بمواصفات شكلية ومعنوية معينة، وإلا لا تكون أما مثالية وفق مقاييسهم، ناسيين ومتناسيين أن الأم هي الأم كيفما كانت تمنح أولادها كل ما تملك، وتستأسد على من يعاديهم في أي وقت،  سواء أعجبهم شكلها أم لا.


يكفي أن بعض من يحاولون عادة التباهي بأنهم من أنصار المرأة، كلما تحدثوا قالوا "المرأة هي الأم والزوجة"، فيسيؤون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، المرأة هي المرأة لها قيمتها ومكانتها بمعزل عن كل هذا.
ورغم هذا التحفظ فإني أشارك بالاحتفال وتقديم الهدايا، وهكذا في كل حفل سأبقى، أما كارهو الفرح والاحتفالات يتحفزون على كل عيد ويعتبرونه تشبها بالغرب، هذه هي اسطوانتهم المكررة وكأن مشاركة العالم فرحه واحتفالاته جريمة، يهابهم البعض محاولا التحايل، فبدلا من أن يسميه عيدا، يسميه يوما، أما أنا فلا أتحرج وسأسميه عيدا وليغضبوا كما يشاؤون، سمي عيدا لأنه ينعاد كل عام ويحتفل به، وهو ما يحدث في أي مناسبة، أين المشكلة؟!


ولماذا تحتفل كل الأمم من كل الثقافات ويتشاركون الاحتفالات، ولا يجد الهنود ولا الصينيون ولا الأفارقة إشكالا في ذلك، ويتبادلون الاحتفالات فيحتفل الغرب برأس السنة الصينية والعكس بالعكس، دون أي تغول أو جور من أحدهما على ثقافة الآخر، حين نحتفل ونتشارك الفرح تسود ثقافة الحب والتسامح والمشاركة، وهي الثقافة الأهم، التي ينبغي الحرص عليها.


مع مطلع السنة الدراسية جاءتني دعوة من مدرسة ابنتي، تخبرني بأنهم ينظمون يوما للاحتفال بعيد "الهالوين" أطلقوا عليه تفاديا لأي هجوم "يوم التنكر العالمي"، قمنا باللازم وذهبنا للحفل، فوجئت بحضور أحد الأطفال بزيه العادي وعدم حضور أسرته، وفي كل الصور التي كان يأخذها الأطفال، كان يصر على البقاء في خلفية الصورة وبهيئة منكسرة، أخبرتني ابنتي فيما بعد أنه قال لهم إنه لا يحب أعياد الكفار وأنها حرام، وهو ربنا سيحسن إليه جزاء صبره، قالتها بهذا  المعنى بما يتناسب مع سنها.


تكرر المشهد ذاته مع تنظيم المدرسة يوما للاحتفال بعيد الأم، رغم أن المدرسة كانت قد وضعت ملحوظة في خطاب الدعوة "نرجو من الأهالي الذين لن يحضروا عدم إحضار أطفالهم حتى لا تتأثر نفسيتهم"، حضر الولد وحده، وكان هذه المرة بهيئة مختلفة هيئة المتحدي الساخر المكابر، استطعت أن استنتج أن الفكرة التي سبق وأخبر بها الأطفال تبلورت أكثر في نفسه، وأن أهله يدفعونه دفعا على الثبات والتحدي في مواجهة هذا المجتمع الضال المضل.


لهم أن يقتنعوا بما يشاؤون ويربوا ويعلموا أولادهم ما يريدون، لكن الأفضل أن يسقوهم المحبة والتسامح، على الأقل لا يجعلونه  يتواجد في يوم لا يعجبهم، دون أن يهيئوه للتحدي والمواجهة، من سيواجه زملاءه في المدرسة، ثم في العمل ثم جيرانه، ثم المجتمع الكافر ثم الدول الكافرة؟


تعايش أو لا تتعايش هذا شأنك، لكن احترم الآخر وقناعاته وأحبه كيفما كان، لا داعي للمواجهة، طفل في عمر الست سنوات يهيئونه للتحدي والمواجهة، يمارسون كل هذا الضغط عليه، قطعا كان يحب أن يلبس ويلهو كأقرانه ويحتفل بحضور والديه، كيف يمكن أن نتخيل نفسيته بعد مرور الأعوام، نسأل الله ألا يسعى لليوم الذي يتمنى أن يقتص فيه من زملاء المدرسة ويُلبِسهم البزة البرتقالية.


ما أجمل أن تكون كل أيامنا حب ومباهج وأعياد؟! ليتها كذلك.