التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 05:44 ص , بتوقيت القاهرة

الأبوّة لا تُثبت الأبوّة

يدفعنا التأمل في القضية التي تحاول فيها أمٌ لا تملك مستندات زواج إثبات نسب ابنيها لرجل يرفض الاعتراف بهما إلى ثلاثة احتمالات وحقيقة واحدة. الاحتمال الأول هو أن الرجل المتهم بالأبوة لم يعاشر تلك الأم، وبذلك فهو يعلم علم اليقين أن ابنيها ليسا من صلبه. الاحتمال الثاني هو أن ذات الرجل المتهم قد عاشر تلك الأم، لكنّه لا يعلم علم اليقين إن كان ابنيها هما ثمرة معاشرته لها أم ثمرة معاشرتها لرجل آخر. الاحتمال الثالث هو أن الرجل قد عاشر الأمَ ويعلم علم اليقين أنها لم تعاشر غيره، وبالتالي هو يعلم أن المرأة لا تفتري عليه. أما الحقيقة الواحدة، والتي يؤكدها رفض الرجل إجراء تحليل يقطع الشك باليقين، هو أنه لا يريد هذين الابنين. لا يريدهما إن كانا من صلبه، وبالضرورة لا يريدهما إن كانا من صلب رجل آخر.


وبالطبع من حقنا، كرجالٍ يدفعهم احترام الشرع والقانون، أن نتابع آراء الفقهاء والقانونيين المتعلقة بطرق إثبات النسب. فليس هناك ما هو أثقل على رجلٍ من أن يحمل اسمه النبيل ولدٌ من غير صلبه. لكن الشرع والقانون لا يبينا لنا بدقة حكم الرجل الذي "لا يريد الأبناءَ" حتى وإن اعترف بهم ومنحهم اسمه وتركته. إن الشرع والقانون بالطبع يلزما الآباء بالإنفاق على أبنائهم إن كانوا في حضانتهم أو في حضانة أمهاتهم المطلقات. كذلك الآباء ملزمون بتطعيم أبنائهم ضد الأمراض، وبإرسالهم للمدارس. وحتى يبلغ الأبناء السن القانونية ـ تلك التي يصبحون فيها مؤهلين للحلول ضيوفًا على السجون ـ فإن آباءهم يعدون مسؤولين عن أفعالهم أمام المجتمع والدولة. بل أننا في أغلب الأحوال نعتبر الأب مسؤولاً عن أفعال ابنه حتى لو بلغ هذا الأخير من العمر عتيًا. لكن التزام الآباء بكل ما سبق من مسؤوليات (وهو ما لا يحدث في كثير من الأحيان) لا يعني أنهم يريدون الأبناء فعلاً.


إن الرجل المعترف بأبنائه شرعًا وقانونًا، لكنه لا يجالسهم ولا يستمع لهم ولا يحرص على متابعة نموهم الصحي والعقلي والأخلاقي، بل يكتفي بالإنفاق عليهم من سعة إن كان موسرًا، هو رجل لا يريد الأبناء. هو فقط رجل يريد إرضاء نفسه وإسعادها، ومما يرضيه ويسعده أن يحوز لقب الأب. وهذا النوع من الآباء يجد في صراع الأجيال وسنة الحياة تفسيرًا مقبولاً لأفكار وسلوك أبنائه المختلفين عن أفكاره وسلوكه. كما يمكنه دومًا أن يشعر بالرضا عن نفسه وهو يوجه اللوم لأمهم التي لم تحسن تربيتهم كما ينبغي.


وهناك رجال يعترفون بأبنائهم شرعًا وقانونًا، لكن اعترافهم هذا لا يمنعهم من بذل غاية جهدهم في التملص من الإنفاق على أبنائهم. وهؤلاء الرجال قد لا يكونون بالضرورة بخلاء، بل هم لا يرون ضرورةً في أن يتعلم الأبناء تعليمًا جيدًا أو أن يحظوا برعاية صحية ملائمة أو أن يرتدوا ما يليق من ثياب. هؤلاء الرجال يلقون بما يرونه كافيًا من نقود لزوجاتهم ويواصلون الحياة في شغف. فصحبة الرجال أمثالهم على المقهى أو في الحانة أو على ناصية الطريق أولى بالنقود. وهذا النوع من الآباء لا يتورع عن ضرب الأبناء والزوجات إذا صدر من أيهم ما يسيء للسمعة بين الأقران، أو طالبوا بأي نفقات زائدة عما يحتاجه الطعام الرخيص. هم لا يريدون في الحقيقة أبناءً، هم لا يريدون أي شيء غير أن يظلوا طلقاءً. لكنهم تزوجوا زواجًا شرعيًا قانونيًا وأنجبوا أطفالاً شرعيين.


ولك أن تتساءل عن الرجال الذين يطلقون زوجاتهم، وهذا حق شرعي وقانوني، لكنهم لا يتورعون عن استخدام كل حيل الشرع والقانون لإذلال مطلقاتهم وأبنائهم الشرعيين القانونيين منهن. فهذا ينكر دخله الحقيقي، وذاك ينكر أن له من الأصل دخلاً ينفق منه. ويزيد تساؤلك عن السبب الذي يدفع الرجل لذلك. ألم يكن حتى الأمس القريب قبل الطلاق يقوم بالتزامات أبنائه؟ هل كان ينفق عليهم بصفته أبًا أم زوجًا؟ هل تطليق أمهم والتوقف عن مضاجعتها يعني أنهم لم يعودوا بحاجة للطعام والشراب والتعليم والدواء والملابس؟ هل يعني ذلك أن احتياجاتهم فجأة قلت من الآلاف إلى المئات أو من المئات للعشرات؟ قل لي يا سيدي الفاضل إن كان هناك تفسير لهذا السلوك غير أن هذا الرجل وأمثاله لم يريدوا الأبناء من الأساس. أو أخبرني بم تعلل أن يمتنع أبٌ عن رؤية أبنائه من مطلقته ـ بإرادته ـ لأسابيع وشهور وسنين! 


وهناك الرجال الذين يرفضون بكل إباء وشمم تطليق زوجاتهم متعللين بحرصهم على مستقبل الأبناء. لكن هذا الحرص لا يمنعهم من إرسال زوجاتهم وبناتهم للعمل في البيوت كخادمات، أو إرسال الأولاد للعمل في الورش أو الحقول كعبيد. والرجل من هؤلاء إما لا يعمل أو يعمل عملاً ضئيل الشأن لا يدر دخلاً كافياً، فعلى الأم والأبناء إطعامه. لم تزوج وأنجب من البداية؟ هو لم يكن يريد أبناءً إذاً بل مصادر دخل. وتتعجب مدى إصرار هذا الرجل على معرفة كل قرش يكسبه أبناؤه وتكسبه زوجته كأنه وزير مالية. ويزيد تعجبك وأنت تشاهده لا يتوقف عن الشكوى والتدخين. كيف تجرؤ الآثمة على طلب الطلاق؟ ومن يربي الأولاد إذن؟ يطرح عليك هذه التساؤلات بينما يذكرك من آن لآخر بحقوقه الشرعية القانونية في أبنائه حضانةً ووصاية!


وهناك بالطبع نوعٌ من الرجال يحبون أبناءهم، ويرسلونهم لأفضل المدارس ويشترون لهم أفضل الثياب والأطعمة وفقاً لإمكاناتهم. ولا يبخل الرجال من هذا النوع على أبنائهم بوقت أو نصح أو إرشاد. وتجد هؤلاء الرجال حريصون أشد الحرص على بث قيمهم التي يظنونها سامية وأصيلة في نفوس أبنائهم، فيغرسون فيهم قيم الأنانية والغرور وإحتقار الآخرين بينما يظنون أنهم يعلمونهم الحرص على المصلحة والثقة بالنفس والكبرياء. ويعلم هؤلاء أبناءهم التفاهة والضحالة والسخافة وهم معتقدون أنهم يمنحونهم كل ما في العصر من إمكانيات. هؤلاء كسابقيهم لا يريدون أبناءً بل يريدون التباهي أمام أنفسهم والآخرين ممن هم على شاكلتهم.


كل هؤلاء الرجال السابق ذكرهم من المعترفين بأبوتهم شرعًا وقانونًا، يستهينون بالأبوة استهانة الرجل الذي يرفض الاعتراف بها. ففي بلد يجعل إنجاب طفل أيسر من استخراج شهادة ميلاد له قد يصبح التساؤل الحزين عن مصير الأطفال غير الشرعيين غير ذي جدوى. فالأبناء من كثرتهم أصبحوا سلعًا رخيصة.


وإن كان المال والبنون زينة الحياة الدينا، فسوف تثبت لنا الأيام أن المسؤولية والمحاسبة هما زينة الحياة العليا.. وعزُها أيضًا.