العبقرية تبكي
العبقرية تبكي.. كان عنوانا لقصة مسرحية قصيرة من إبداعات الأديب والشاعر د. يوسف عز الدين عيسى، نُشرت بملحق جريدة الأهرام بتاريخ 25 يوليو 1997. تدور المسرحية حول مؤلف مسرحي، يعاني من التهميش وضعف الترحيب بما يقدمه من أعمال أدبية ومسرحية رغم تميزه الأدبي، إلى الحد الذي يجعل مدير المسرح يواجهه بضعف إقبال الجمهور نحو أعماله، وكان رد المؤلف بطل القصة: أن مقياسه في النجاح هو تلقي الجمهور لعمله بفتور وليس بإقبال، عندئذ يتأكد من قيمة إنتاجه الأدبي!
ويؤكد مدير المسرح قوله، متنبئاً بأن أعماله قد تُعرف قيمتها بعد مائتي عام، ثم يؤكد أنه كمدير للمسرح فى هذه اللحظة لا يهمه سوى إعجاب الجماهير وإيراداتهم، فى حين أنه يخشى صفارات استهجان الجمهور، الذي وصل فى آخر عرض له إلى محاولة الفتك بالممثلين، رفضا منهم للعرض المسرحي، رغم إيمانه بعبقرية المسرحية.
يسير النقاش بشكل فلسفي بين المؤلف ومدير المسرح، فيقرر مدير المسرح الاستغناء عنه، كي لا يخسر جمهوره أو يفلس مسرحه، رغم إيمانه بخلود مسرحياته. يطلب منه المؤلف فرصة أخرى، يحاول فيها كتابة عدد من الأعمال دون المستوى، التي ترضي جمهور المسرح, فيرفض مدير المسرح الأمر باعتباره مؤلفا خُلق ليرتفع بالوعي لا لأن يهبط به!
تتصاعد الأزمة، فمدير المسرح يؤمن بالمؤلف المتميز بشكل شخصي، ويرفضه بشكل عملي، وتغلب النظرة الاقتصادية على ما سواها، فيتم إنهاء عقد المؤلف مع أسف مالك المسرح!
وإمعانا فى المأساة، يخبره المدير بأنه على وشك التعاقد مع صديق له -المؤلف- ينتج أعمالا مسرحية سطحية، لكنها تخلق التدافع تجاه شباك التذاكر.
تستمر الأحداث بحوار بسيط بين المؤلف ووالدته، فيخبرها بما حدث من الاستغناء عنه، وقول المدير: بأنه ولد قبل موعده، فتؤكد الأم أنه بالفعل ولد قبل موعده بثمانية عشر يوما، فيخبرها بقول مديره: بل أنها ولدته قبل موعده بقرنين.. فتؤكد الأم على غرابة منطقه وكتاباته!
وتتعقد المأساة بحوار بين المؤلف وصديقه صاحب الأعمال الساذجة المحببة للجماهير، بخصوص جدوى تقدير عمل المبدع بعد وفاته، وماذا يعود عليه، لو عرفت البشرية قيمته بعد مائتي عام أو خمسمائة؟! وماذا يفيد التكريم لجائع إن مات؟! ويتمكن بؤس النهايات من الكاتب فلا مجدا نال ولا حظي بحبٍ.
وطبقا لحلم رآه فى منامه، ورواه لأمه، فقد كتب آخر مسرحياته إلى حبه الذى سيولد بعد موته.. يصيب الكاتب وأمه الفقر، ويتملكه المرض الذى ينحل جسده بالتدريج، حتى لم يبق منه سوى يمناه، التى تكتب بارتجاف.
ويموت الكاتب بعد حديث مقتضب مع أمه، يتناول ما أصاب حياتهما من ضنك..
يبدأ المشهد الثالث، في عصر آخر بعد قرنين، والجماهير تلتف حول تمثال للكاتب يُزاح عنه الستار، وتُنشد حوله مدائح عبقريته الفريدة، وبالمشهد حوار بين فتاة عشرينية جميلة أتت باكية، معلنة عن حبها لصاحب التمثال الميت، وسيدة تصمها بالجنون! وقد التقطت الفتاة إهداءه على مؤلفه: إلى حبيبتي التي لن أراها، فالتقطت رسالته، وانتابها النحيب.
دخلت الفتاة فى صراع فكري قصير مع والدتها، وقد أعلنت أمامها حبها للعبقري الميت الذى تحيا بين صوره وتماثيله، وذبل جسدها، وانتهت حياتها بالتدريج، حتى لحقت به فى عالم آخر، يجمعهما فى مشهد نهائي بعالم مغاير.
قصة بسيطة رومانتيكية المذهب، تتناول النمط التقليدي من حيث رفض الواقع، ومصادمة المجتمع، والشعور بالوحدة، وعرض آلام خبايا النفس، والتقوقع على الذات، والغضب من التجاهل وغياب التقدير المناسب.
وقد كتب د. يوسف عز الدين، تيمة مشابهة فى قصته "لا تلوموا الخريف" وقام بتمثيلها للإذاعة "محمود مرسى".. تقريبا هذه هي مأساة المبدعين والنابغين فى كل عصر، هؤلاء الذين يحترقون لأجل مجتمعات لا تمنحهم النظرة اللائقة، فضلا عن التقدير والاهتمام بما يحملون من رسالات، هذا إن لم يناصبه مجتمعه العداء، وقد يقضي هذا أو ذاك عمره كله لأجل ترويج فكرة ونشرها، حتى يأتى من بعده من يستطيع الاستمرار بها وتطويرها وعرضها على المجتمع بصورة مغايرة، فتترسخ وتتحقق الاستفادة منها، وتنطلق المجتمعات نحو الأفضل.
بنقلة مباشرة على اللحظة، وفى عصر التواصل الاجتماعي وسرعة نقل الحدث، أصبح للكل مقدرة على توصيل رسالته فى التو واللحظة، سواء كانت الرسالة ذات هدف عميق أو فكرة ألمعية، أو كانت مجرد نقل لحدث عابر، فالجميع تقريبا يحمل الكاميرا بتليفونه ويمتلك صفحة شخصية، يستطيع عرض ذاته، وموهبته، وكتاباته، وتبقى الخطوة الأخيرة نحو تحقيق الشهرة والنجومية، مرهونا بالوصول لمقعد فى سهرة توك شو فضائية، التي بدورها لشدة ما جمعت من آلاف الوجوه، فقدت بعضا من قيمتها وإبهارها هى الأخرى!
في معرض الكتاب، فوجيء الجميع، بشخص يذهب إلى المعرض لا لكى يعرض نفسه وينال الشهرة بإبداعه، بل لكي يحصد ثمار شهرة جمعها من قبل عبر الإنترنت والفيسبوك وبعض الحفلات والمؤلفات المجهولة لأهل الكتاب! شهرة تحققت في مجتمع مغاير لا يعرفه أغلبنا.. حتى حقق السيد "زاب ثروت" رقما عاليا من التوزيع، جعله حسبما قيل على قمة مبيعات معرض الكتاب لهذا العام، لم يحتاج السيد زاب إلى الانتظار لعصر آخر كي ينال حبيبته التى ستتفهم إبداعاته، بل أنه فى أحد مقاطع كتابه، ذكر دهشته من كونها تتجاهل شخصه، وهو من هو على شهرته.. ففوجيء المهتمون بالكتاب وعالمه، بشخص يأتي بثقافته الخاصة، ولد عملاقا، تحمله جماهير مؤدلجة، تتعامل مع الكاتب كما تهتف لفريقها الرياضي، ينتمون إليه مهما قال وكيفما عبّر.
وكان أن انتقل للمرحلة التالية، لقاء الفضائيات، فاستضافته "رشا نبيل" ببرنامجها "كلام تانى" بقناة دريم 2، فجاء الرجل محملا بثقافته الصادمة، ذلك الصغير المشبع بالعنف، وتوهم العظمة في ذاته المحدودة للغاية، ذات توهمت بنفسها أنها فعلت ما يستحق الهتاف لأجلها، الحق أن الأمر لا يعدو سوى امتلاكه منبرا متاحا بالإنترنت ومسرحا ميسرا للغناء.
لم يفعل "زاب ثروت" مثلما فعل بطل قصة د. يوسف عز الدين عيسى. إنه يقدم مباشرة ما يتوافق مع شريحة من الجماهير، والجماهير هنا كما صورتهم العدسات، مراهقون يتبنون الضجر المستمر كموضة ثورية ناسبت أدرينالين عروقهم، صغيرات محجبات يتمايلن مع الراب، ويتبادلن العبارات المبتكرة، كدلالة على التميز والتفوق المجتمعي والسياسي، وشباب غر مثله الأعلى مغني راب مغمور أو لاعب كرة يسجد مرارا.
في لقائه التليفزيوني، كانت الإعلامية تجتر منه معنى للوطن، فيحدثها عن الوطن الذي هو "اللي ماتوا"، فتصرف نظره محاولة استخراج عبارات تقدير لشهداء الجيش، فيجاريها على مضض، ثم يصرفها عمدا نحو ضحايا مباريات الكرة والمظاهرات، الرجل صريح، يتبنى ثقافة الدماء المتشابهة، التي تؤدي لتساوى الجميع، ويحصر الصراع بين سياسات متعارضة وفصائل متصارعة، لتخرج المباراة بينهما تعادلا فى اللف والدوران.
إن الرجل جاء مجهزا بكل ما يريد أن يقول، هو ردده مرارا على مسرحه بأسلوب الراب المصطنع، ثم استثمره أصحاب دار النشر، ليكتب ويبيع بنفس منطق غنّ فتُسمع.. تحمل ملامحه غُربة معرفية، ويحمل أسلوبه عنفا موجها نحو أى صورة لسيطرة الدولة، فهناك من يرى الوطن فى قيم الألتراس، ويحمل انتماء مغايرا.
هو طفل يبحث عن بطولة جيفارية الطابع، مدعيا الفهم والخبرة والتجربة والثقافة، استنادا لجمهرة صغار يلتفون حوله. نجحت دار النشر فى استغلال حالة الشاب، فوفقوا فى نقل جماهير المسرح المتمايلة، للتدافع في معرض الكتاب من أجل نيل توقيع مغنيهم الصارخ، المداعب لهرموناتهم غضبهم.. كان مدير المسرح على قسوته أكثر إنسانية، فلم يفعل سوى أن فصل العبقري من عمله، واختار صديقه السطحي ليقدم مسرحياته بمسرحه، أما هؤلاء فقد قاموا بغزوة باطشة في معرض الكتاب، لا أظنها الأخيرة.
ورغم كل ما تبدل وتغير، وما عايشناه من تطور وتقدم تكنولوجى، جعل لكل شخص منبره دون الحاجة لمدير المسرح الراغب فى الربح، ودون العرض على لجان التقييم ذات التقاليد العتيقة، إلا أن فى النهاية، العبقرية ما زالت تبكي.