"هيتشكوك - تروفو".. "هوفيك - ريبستاين"
أُكن حبا خاصا للمحاورات السينمائية، المحاورات التي تتم بين طرفين كلاهما على علم حقيقي بفن السينما، يؤمن بها ويمتلك وجهة نظر متبلورة تجاهها، خاصة وأن نسبة هذه النوعية من المحاورات لا تتجاوز رقما ضئيلا جدا من آلاف المقابلات الصحفية التي تُجرى مع صنّاع الأفلام عالميا.
الحوار فن ذو طابع صحفي أصيل، يأخذ كثير من القائمين به تلقائيا نحو البحث عن تصريح مثير، أو حكاية مسلية، ناهيك بالطبع عن انشغال جداول المخرجين الكبار وعدم منحهم الوقت والانتباه الكافيين لمن يحاورهم في الظروف الطبيعية، اللهم إلا إذا تمكن من لفت انتباههم بسؤال ذكي وغير متوقع، وهو أمر نادر الحدوث، على الأقل بمعيار النظر للنتائج.
الأمر في منطقتنا العربية أسوأ بكثير من الخارج، والصحافة الفنية لم يعد كتّابها بنفس البريق الذي كان عليه أصحاب نفس المهنة قبل عقود. هناك بالطبع أسماء ممتازة وقادرة على إدارة حوار شيق، لكن من يحاول أن يفحص عشوائيا الحوارات الفنية المنشورة في المطبوعات العربية في يوم أو أسبوع واحد على سبيل المثال، يمكنه أن يضع يده بوضوح على ندرة المحاورات السينمائية الحقيقية.
هذا الأسبوع كان من حسن حظي أن أستمتع باثنين من الحوارات السينمائية الشيقة، أولهما كلاسيكي يجب أن يقرأه كل من له علاقة بالسينما، والآخر معاصر يشكل حلقة من حلقات أهم مشروع محاورات يمكن ملاحظته في الصحافة السينمائية العربية حاليا.
الحوار الأول ممتد في كتاب بديع يحمل عنوان "هيتشكوك - تروفو" (دار المدى 2012- 331 صفحة)، محاورة من 500 سؤال أو أكثر، وجهها الناقد والمخرج الفرنسي الشهير فرانسوا تروفو في النصف الثاني من الستينيات إلى ألفريد هيتشكوك، الرجل الذي لا يمكن لمن يرى مكانته الحالية في تاريخ السينما تخيّل أنه ظل منبوذا من قبل نقاد هوليوود، مصنفا ضمن صناع الأفلام التجارية الرديئة، حتى أعاد جيل كراسات السينما الفرنسية الاعتبار له ومنحه ما يستحق من تقدير عبر بعدها المحيط الأطلنطي في الاتجاه المعاكس هذه المرة.
محاورة "هيتشكوك - تروفو" تتم بين رجلين يعرفان يقينا قيمة موضوع النقاش، تروفو يحاور نبيا للسينما، نبيا شاهد رسالته واستوعبها وآمن بها، وكوّن رأيا واضحا تجاهها، رأيا مفاده أن هيتشكوك عاش مؤمنا بالسينما كفكرة وأسلوب حياة، وأن الأشخاص لو كانوا طبقا لتصنيف فيرديناندسيلين ينقسمون إلى مُتعريّن (يميلون للتعري) ومتلصصين (يفضلون التلصص عليهم)، فإن ألفريد كان بالقطع من الفئة الثانية، فهو كما يقول تروفو "لم يهتم بالحياة وإنما شاهدها".
الفهم السابق، والذي يتجاوز في الحقيقة مساحة الرأي إلى حيز التنظير الفلسفي، جعل لكل سؤال وكل تعليق ثقله، وجعل متعة الحوار تسيري في الاتجاهين، لا تأت فقط من إجابات المخرج البريطاني. وبشكل عام الكتاب يحتاج لوقفة أكبر من هذه بكثير، ربما أكتب عنه بالتفصيل في أسبوع لاحق.
الحوار الثاني هو مقابلة صغيرة المساحة أجراها الناقد اللبناني هوفيك حبشيان مع المخرج المكسيكي أرتورو ريبستاين (الإغواء، الحب يرقد، لا أحد يكتب إلى الكولونيل)، مقابلة على صغر مساحتها تحمل ملامح لمشروع المحاورات التي يجريها هوفيك بدأب منذ سنوات مع عدد كبار فناني العالم، محاورات تتم عادة خلال المهرجانات السينمائية المزدحمة بمقابلاتها المضغوطة زمنيا، لكنه يخرج بمحاوره فيها من حيز الحديث الاعتيادي عن فيلمه الأحدث المعروض في المهرجان، إلى مساحة أرحب من الحديث عن مشواره، عن السينما، وعن الحياة.
عن لعنة هوية مخرج من دولة كالمكسيك يقول ريبستاين لهوفيك "المشكلة عندما تكون من بلدان كهذه، أن الناس تخلط بينك وما تسمعه وتراه عن هذه البلدان. أتكلم عما تراه في وسائل الإعلام المملوءة بالكذب والتضليل. هذا يقودك إلى أن تُبيّن للناس جوازك قبل أن تريهم موهبتك. عليك أن تشرح لهم من أين أنت كي يقبلوا بك. إذا كنت مخرجًا من الشرق الأوسط، ينتظرون منك أن تنقل في أفلامك ما يقرأه الآخرون عن بلدك في الصحف، وعليك أن تقول رأيك، وإلا لن يهتموا بك. هذا أمر مروع، لأن الموهبة لا هوية لها. لكن في عصرنا الحالي، باتوا يروّضون الموهبة، كي تتناسب مع معتقدات سائدة ومعلبة، وإلا وضعوك جانبًا. شخصياً، لا تهمّني الآراء. الرأي شيء سطحي جدًا، وهو يتغير في كل لحظة".
وعن حنينه وماضيه يقول "انتهى العالم حيث ولدتُ وترعرتُ وشعرتُ أنه سبب سعادتي. عندما كان يُحكى أن العالم سينتهي في العام 2000 بحسب توقعات نوستراداموس، كان هذا صحيحاً: لم ينته مثلما كان متوقعاً، أي بالزلازل والكوراث الطبيعية، لكنه انتهى مثلما توقعه ت. س إليوت: بتأوه وليس بانفجار. الآن لدينا عالم حواسيب، ولديك الـ"أي باد"، وهو اختراع عظيم، لكن ذاكرته محدودة. عندما كنت طفلاً، كان عليّ أن أحفظ عن ظهر قلب 24 رقماً تلفونياً وعناوين الكثير من الناس، وأسماء العديد من الكتّاب وأعمالهم. الثقافة الى زوال، لأن الناس باتوا يخلطون بينها وبين المعلومات".
الحوارات السينمائية الممتعة نادرة الوجود، والعثور على اثنين منها في أسبوع واحد فرصة نادرة لا تتاح كثيرا، ولا يسع القارئ إلا أن يحاول العثور على كنوز مثل كتاب تروفو، وأن يتمنى وجود واستمرار محاورين مثل حبشيان.