التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 01:05 م , بتوقيت القاهرة

"وطنيون" يضيقون بليليان داود

بوجه عابس أجابتني السيدة حين طلبتُ منها مقابلة: "إنتي جاية من لبنان لتعملي تحقيق عن جرائم الشرف عنا.. روحي اشتغلي عن بلدك.".. ابتسمت وتابعت بحثي عن شخصيات أخرى، فقد تآلفت في سنوات عملي الصحافي خصوصا في عدد من البلاد العربية "الشقيقة"، أن أُقابل بمثل هذا الردّ أو بوجوه متجهمة.


"ليش بلبنان مافي عندكم انتهاكات.. قاتلتوا بعضكم سنين!!". 


مثل هذه التعليقات التي جوبهت بها في بعض الدول خلال سنوات عملي الصحافي، واجهتني في لبنان أيضا: "إنتي لبنانية إنتي.. يا عيب الشوم".


بالتأكيد اعتدت وآخرون غيري سماع مثل هذه الملاحظات، منها ما هو أكثر أو أقل، وهي حتما لا ترسم صورة كاملة لأنني في النهاية كنت أكمل عملي وأجري مقابلاتي وألاقي متجاوبين ومتعاونين كثر. لكن ومع ضرورة عدم تضخيم تلك السلبية والاكتفاء بحصر الرد عليها بالسخرية والتهميش، لا مفر من الإقرار بأنها تعليقات تصيب من يتعرض لها، وتتفاوت الإصابة خصوصا حين تصبح حملة تتسيد فيها الشتيمة والإهانة الشخصية. 


هل الوطنية رداء نوسعه ونحدده كما نشتهي؟! وأي وطنية هذه التي تتسم بالضيق حتى تكاد تخنق من يدعي الدفاع عنها قبل غيره. أحقا لا يحق لليليان داود أن تُبدي رأيا بشأن مصريّ؟!


إبداء الرأي حق لا يُمكن لصراخ وشتائم أن تحولَ دونه. هذا يعني أنه نعم، ببساطة يحق لأي إنسان في هذا الكون أن يُبدي رأيا بما يشاء وفي أي شأن، ولو لم يكن هذا طبيعيا وحاجة معرفية وإنسانية لما تقدمت الدنيا ولكانت الحياة لا تُطاق.


بالتأكيد لم يكن حسا وطنيا ما أصاب بعض الكتبة والمعلقين في مصر الأسبوع الماضي. أعني تلك الحملة الشعواء التي شُنت ضد الإعلامية ليليان داود لأنها غردت على «تويتر» منتقدة الحكم التعسفي ضد الناشط علاء عبد الفتاح بسجنه خمس سنوات، وذاك الوضع الدقيق الذي تمر به مصر.


ليست ليليان الهدف الأول، وللأسف لا يبدو أنها ستكون الأخيرة في هذه الموجة من السُعار "الوطني"، فمن ثاروا على ليليان ومن قبل على غيرها أشبه بالمرضى الذين تصيبهم حمى تظهر بشكل كاريكاتوري وفاشي أيضا. كيف بغير ذلك تُفسر الدعوات إلى طردها وأبلستها وتحميلها كل الشرور.


فعلا، لقد بدت "الهبة الوطنية" التي تزعمها متزلفون كوميدية، فالحديث عن الوطن والسُلطة بهذا الشكل الخرافي هو فوضى شعورية لا قيمة لها، ولا تعكس بأي حال مواطنة صادقة قدر ما تعكس خوفا وضيقا وكراهية من المُحال أن تساهم في بناء وطن، أي وطن. من يُحب وطنه وجيشه عليه أن يقول الحقيقة أو على الأقل أن يسمح بنقاش ما يعتقده يقينا، لا أن يُشهِر في وجه من ينتقد سهام التجريح والإدانة المعنوية والمادية.


الأرجح أن كلاما كهذا قد يستدرج ردودا وهذا ما حصل مع ليليان وغيرها كثيرين، ولهذا نرى أن هناك من انسحب أو أجبر على الانسحاب، أما من يحاول الاستمرار بقول ما يجب أن يقال فيجابه بشراسة وهذا ما تعرّضت له الزميلة "ليليان". 


أما المضمون الفعلي للكلام الرخيص الذي قيل بشأن اسمها ولقبها أو جنسيتها وأنوثتها بل وحتى أنفها كلام ركيك، ينطوي على أزمات لدى مُطلقيها لا تبدأ بالتزلف والنفاق والفاشية ولا تنتهي بذكورية مريضة. 


لكن الحملة ضد ليليان لم تكن الوجه الوحيد، فهي أيضا لاقت احتضانا ودعما لافتين من أصوات في مصر، شعرت أن القضية المُثارة ليست قضية شخص ولا تعني إعلامية قالت رأيا فقط. إنها واحدة من حكايات الصدام في عالمنا العربي مع قيمة جوهرية تتعلق برفض الانصياع للصوت الواحد والسلطة الجائرة. 


من دون كثير كلام، الديمقراطية تعني أنه عندما يُجاهر أحد بقوله إن الإسلام هو الحل يستطيع شخص مقابل أن يجابهه ويقول له لا قيامة لوطن يحكمه الدين والعصبية دون أن يعتبر كافرا.


أيضا الديمقراطية تعني أنه حين يخرج أحد ما ويقول إن الجيش هو الحل والتضييق على الحرية والرأي سبيل الخلاص، ويخرج أحد في المقابل ويقول له إن الجيش هو المشكلة وإن التعسف هو ما سيؤدي بالبلاد إلى الهلاك لا يعتبر شيطانا أو خائنا. 


ومثلما أظهرت الحملة على ليليان بأن ثمة ضائقة في مصر وأن هناك وضعًا غير سليم، أظهرت حملات الدفاع عنها إلى أن ثمة آخرين ما زالوا يؤمنون أن الطريق طويلة وشائكة ولا مفرّ من السير فيها رغم كل العثرات.


اقرأ أيضا