بروفايل| زينات صدقي.. سيدة الكتاكيت البني (1)
(1) كتاكيتو بني
في طفولتنا - نحن أبناء الثمانينات - لم يكن هناك وسيلة ترفيهية سوى التليفزيون المصري، وبالتليفزيون هنا نعني القناتين الأولى والثانية، فرداءة بث القنوات الأخرى، والتي بدأت في الظهور تباعا في ذلك الوقت، لم تكن تسمح باعتبارهما قنوات من الأساس. وبقدر ما يبدو هذا بائسا اليوم، بقدر ما كانت الميزة الأهم لتلك الفترة هو أننا تمكنّا من مشاهدة أفلام الأبيض والأسود القديمة مرارا وتكرار حتى حفظناها.
في تلك الفترة، لم أستطع الإلمام بأسماء غالبية الممثلين - اللهم إلا اسماعيل يس الذي حملت غالبية أفلامه اسمه الحقيقي - ولكن اسم "زينات صدقي" عرف طريقه إلى ذاكرتي، والسبب في ذلك كان "توكة شعر".
كانت أمي قد ابتاعتني "توكة" تحمل في أطرافها "كتكوتين"، ولم يستطع والدي منع نفسه من تكرار نفس المزحة كلما رآني أرتديها: " كتاكيتو بني.. عامله فيها زينات صدقي"، بعدها بفترة بدأت أربط بين تلك الكوميديانة المختلة ذات القبعات العجيبة وبين سخرية والدي الدائمة من توكتي الجديدة وكتاكيتي الصغار.
(2) ليست عانس
يمكنك بالقليل من البحث أن تعرف أي حياة عاشتها تلك الكوميديانة المدهشة، فعلى الرغم من أن دور العانس الشعنونة كان أكثر أدوارها تكرارا، إلا أن زينات صدقي - أو زينب محمد سعد وهو اسمها الحقيقي - تزوجت 3 مرات، كانت جميلة، جميلة جدا في الواقع، جمال خواجاتي كما يقولون، عيون خضراء وبشرة بيضاء وقوام ملفوف، خرطها خراط البنات وهي بنت 11 عام، ليقرر والدها ألا تكمل تعليمها، وتبقى في البيت بانتظار العدل، لتتزوج وهي بنت 15 عام، من طبيب من أقارب والدها، ولكن زينب بنت بحري التي تحب المغنى والفرفشة، والتي ورثت روحها الخفيفة عن والدتها الست حفيظة - التي كانت تحب الغناء بدورها وتدق عالعود في نطاق الأسرة فقط- لم تنسجم مع زوجها الطبيب الهادئ الصامت وحياته الرتيبة، فانفصلت عنه بعد وفاة والدها مباشرة، وبعد 11 شهر فقط من زواجهما.
(3) الأسطى زينب العالمة
كانت بداية عملها بالفن كمطربة في أفراح الأكابر في الإسكندرية، بحثا عن المال بعد أن سرق عمها الأكبر إرث أبيها الراحل، فكونت مع صديقتها المقربة، خيرية صدقي، فرقة صغيرة، حيث تغني الأولى بعد أن غيرت اسمها لزينب صدقي - مستعيرة لقب صديقتها خيرية، كي لا تستدل أسرة والدها عليها، في وقت كان فيه الغناء "فضيحة وجُرسة" - وترقص الثانية.
بعد الغناء في الأفراح، وجدت "زينب" طريقها للعمل في تياترو "زيزينيا"، لتقف على المسرح للمرة الأولى، ولتصبح "خايف أقول اللي في قلبي" هي أول ما غنت الست زينب العالمة كما اشتهرت آنذاك، على خشبة المسرح.
(4) المونولوجيست
ثم اضطرتها أزمة القطن التي أصابت مصر آنذاك - والتي أصاب شرّها غالبية التياتروهات والملاهي الترفيهية، وجعلت صاحب التياترو يخفض أجرها للنصف - أن تبحث عن العمل في مكان آخر، لتستقر على تياترو "مونت كارلو"، الذي لم يكن في حاجة لمطربات آنذاك، فعملت كمونولوجيست، مع ذلك المونولجيست الجديد الذي عُين في التياترو مؤخرا، "اسماعيل يس"، وكان أجرها آنذاك 25 قرشا في الليلة.
ثم قررت الالتحاق بمعهد "أنصار التمثيل والخيالة"، الذي أنشأه الفنان زكي طليمات، لتتعلم التمثيل، وتتحول من "أُسطى" لفنانة شاملة، ولكن لم تمض سوى أشهر معدودة حتى أغلق المعهد بقرار من وزارة الداخلية، بدعوى كونه "منافيا للآداب العامة"، فكوّن طليمات جمعية "الحمير" كرد ساخر على قرار إغلاق المعهد، واجتذبت الجمعية نخبة مثقفي ذلك العصر، ومنهم طه حسين وإحسان عبد القدوس، وكانت "زينب" من أول المنضمين للجمعية.
ازدادت الأمور سوءا عندما سقطت "زينب" مريضة إثر الإرهاق والحياة غير المستقرة، ولكنها سرعان ما تماثلت الشفاء، بعد أن اكتسبت وسواس النظافة الذي اشتهرت به، خوفا من أن تمرض مجددا وتعجز عن العمل، فكانت تستخدم أدوات مائدة خاصة بها وحدها، وتغليها بعد كل استخدام، ولا تصافح أحدا ولا تمس أحدا.
(5) ده حتى مش كويس على عقلك الباطن
كانت الست حفيظة، كأي أم مصرية في مكانها، لا تكف عن الإلحاح على "زينب" للزواج، وذات مرة أثناء الحديث في الأمر، رفضت "زينب" كالعادة مجرد النقاش، فقالت لها "انتي لسه صغيرة مكملتيش تمنتاشر سنة، ده حتى مش كويس على عقلك الباطن"، وهي الجملة التي استخدمتها "زينات صدقي لاحقا في فيلم ابن حميدو.
(6) الست زينب المصرية
تمر الأيام، ويتاح لزينب السفر لبيروت مع صديقتها خيرية ووالدتها، شجعها على تلك الخطوة أن علم عمّها بكونها "صييتة" تغني في الأفراح والتياتروهات، وأقسم على قتلها انتقاما لاسم الأسرة، لتسافر "زينب" وتتحول لمطربة محترفة وتطلق على نفسها "الست زينب المصرية"، وتغني أغنيتها الخاصة الأولى والأخيرة - بعد أن كانت تكتفي بترديد أغنيات المشاهير - والتي كتبها أحد معحبيها كهدية وعربون مودة، وتقول:
أنا زينب المصرية
ارتيست لكن فنية
اغني وأتسلطن... يا عينية
تعالَ شوف الارتيست
الست زينب المصرية
جمال وخفة إسكندرانية
ع المسرح جوهرة يا عينيه
الست زينب المصرية
ارتيست لكن فنية
(7) "علقة" على المسرح
بدأ نجم "الست زينب المصرية" يسطع في تياتروهات بيروت، حتى ارتكتب خطأ فادحا، كلفها "علقة ساخنة" على المسرح وأمام جمهورها، واضطرها لمغادرة بيروت، حيث كانت قد تعاقدت مع أحد التياتروهات على أداء بعض أغانيها الجديدة، ولكن زينب التي لم يكن لها مؤلفها ولا ملحنها الخاص، لم يكن لها أغانٍ خاصة لا جديدة ولا قديمة، فقررت تأدية 7 أغنيات من اسطوانة الست "فتحية أحمد" الجديدة التي لم تكن قد وصلت لبنان بعد، وتشاء الصدفة أن تكون فتحية أحمد موجودة في الحضور، لتدرك أن "زينب" تقوم بسرقة أغنياتها، فما كان منها إلا أن "جابتها من شعرها ومسحت بيها المسرح"، لتقرر "زينب" أن تغادر بيروت وتعود لمصر، للقاهرة تحديدا، بعد أن أصبحت اسكندرية خطرا عليها بسبب عمها.
(8) تياترو بديعة
في تلك الفترة، كان تياترو بديعة - الفنانة بديعة مصابني - قبلة كل من أراد العمل في الفن، وفي فترة كان الكثير من عمالقة الفن يغنون ويرقصون ويؤدون الاستعراضات والمونولوجات في تياترو بديعة، انضمت "زينب" لتلك الكوكبة الضخمة، بعد أن علمت أن بديعة قد سمعت بالفعل عن الست زينب المصرية، وأنها على استعداد لضمها لفرقتها، ولكن كراقصة لا كمغنية، فلم تكن بديعة ترى في زينب الطرب بقدر ما رأت القدرة على الأداء على المسرح.
ربما كانت الحاجة للمال، ربما كانت الحاجة للحماية التي كانت توفرها بديعة آنذاك للعاملين معها، بحكم علاقاتها بذوي المناصب الهامة وبحكم أمومتها للعاملين معها، وربما الرغبة في التجربة، ما شجع "زينب" على الموافقة على عرض بديعة، وربما كان القدر الذي يحمل لها مستقبلا لم يخطر لها على بال، كانت بدايته في هذا التياترو وعلى يد صاحبته، بالأحرى، زوجها.
رقصة زينات صدقي من فيلم صاحبة العصمة
(9) زينات صدقي
استمرت زينب في العمل في تياترو بديعة كراقصة، ولكنها لم تكن تجيد الرقص أو تحبه، إلى أن قررت ذات يوم أن تصارح الست بديعة برغبتها في الانصراف عن الرقص وتأدية المونولوجات، خاصة بعد أن شاهدت فيلم "أولاد الذوات" أول فيلم مصري ناطق، لتجد أن التمثيل أقرب لروحها من كل ما فعلته في حياتها، وعندما علمت الست بديعة برغبة زينب في التمثيل، قررت أن تذهب بها لزوجها في ذلك الوقت، نجيب الريحاني.
يوافق الريحاني على ضم زينب لفرقته، ويرحب بها، ويمنحها سكنا وراتبا شهريا قدره 12 جنيه كرامة لـ"بدعدع"، ويغير اسمها لـ"زينات صدقي" لوجود فنانة باسم "زينب صدقي" في فرقته بالفعل، لتبدأ زينات العمل ككومبارس صامت في دور خادمة، ثم يتطور دورها بعد أن يستشعر فيها الريحاني الموهبة المتميزة، لتنطق للمرة الأولى في مسرحية "الجنيه المصري".
(10) الزوج الثاني
أثناء وجودها في الفرقة، لفتت زينات نظر الملحن ابراهيم فوزي، الذي كان يلحن أغاني مسرحيات الريحاني، ونشأت بينهما علاقة عاطفية سرعان ما كللت بالزواج، إلا أن قرار الريحاني باصطحاب بعض أعضاء الفرقة - من بينهم زينات فقط دون زوجها- للمغرب لأداء بعض العروض المسرحية، تسبب في إنهاء تلك الزيجة بعد ثلاث شهور فقط من زواجهما، إذ رفض ابراهيم سفر زينات، ورفض زينات محاولة ابراهيم للسيطرة على حياتها الفنية.
(11) زغروته يا حبايب
ثم تلمع فرصة العمل في السينما أمام زينات صدقي، وتقتنصها لتظهر على الشاشة للمرة الأولى في فيلم "الاتهام"، وتلفت نظر الجمهور ليلة العرض الخاص بزغرودة عالية أطلقتها فور انتهاء عرض الفيلم، فتسرق الأضواء من بهيجة حافظ، منتجة الفيلم وبطلته، وتؤكد صحة رؤية الريحاني لموهبتها وخفة ظلها، فطلب منها أن تقوم بدور أخته في مسرحية الدنيا لما تضحك.
(12) البداية
يمكننا القول أن تلك المسرحية على وجه التحديد هي نقطة انطلاق زينات صدقي، فبعد الدور الذي أدته أمام الريحاني والذي أخرج طاقتها الكاملة في الكوميديا والـ"شرشحة" إن جاز التعبير، والمساحة التي منحها إياها الريحاني وبديع خيري في الإضافة لحوارها، إلتفتت لها الأعين في السينما والمسرح، فعملت مع فرقة رمسيس، وعملت مع أحمد بدرخان في بداياته، ورشحتها صداقتها الوثيقة بإسماعيل ياسين والنابلسي للعب الكثير والكثير من الأدوار أمامهما، وللحديث عن زينات صدقي، بقية.