التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:47 م , بتوقيت القاهرة

ستغرقون السيسي بنظرية "الحنفية والوعاء"

في زيارة خارجية للرئيس التقى وزير مصري بالوفد الإعلامي في منزل السفير. تبادل الوزير بمجرد جلوسه حوارات سريعة مع رؤساء صحف كبرى ورئيس لوكالة أنباء رسمية. أسئلة وردود سريعة. شجعت صحفيا آخر على أن يوجه حديثه إلى هذا الوزير تعليقا على ما يحدث. لكن الوزير، دون أن يلتفت إليه، قطع الحوار قائلا: "إحنا مش جايين هنا نتكلم في السياسة".

الوزير - طبعا - جاء ليتحدث في السياسة. وحواره مع رؤساء الصحف الكبرى كان في السياسة. لكنها السياسة المضمونة، الآتية من "الحنفية الرسمية"، لتستقر في "الوعاء الرسمي"، ثم تعرض على الجمهور. يخشى الوزير أن يفاجئه أحد الحضور بنقطة ليست قادمة من "الماسورة الأم".

إحدى مشكلات السلطة في مصر نابعة من حالة الاكتفاء الذاتي المعرفي التي تعيش فيها. والتي يسخر إعلامها الرسمي، ومواطنوها الشرفاء، أنفسهم لمدحها وتعميقها. ربما يظنون أن هذه هي الوطنية، وربما لأنهم هم أيضا يعيشون نفس الحالة، أو يرون - كما السلطة - أن السلامة تقتضي العيش داخل مربع من "ثوابت الأمة" و"الأعراف والتقاليد" و"من فات قديمه تاه" و"قيراط حظ ولا فدان شطارة".

خذي هذا المثال: تحدث الرئيس إلى الأمة. وهذا تقليد جيد جدا، والحديث نفسه كان ذكيا في تناوله لما يشغل الناس، مهما كانت حساسية القضية، فتناول قضية شيماء الصباغ، وقضية استاد الدفاع الجوي، والسجناء بلا اتهام، والتسريبات التي مست دول الخليج. إلا أن الحديث لم يصور بشكل جيد. عادي. بتحصل في أحسن العائلات. ومن الجيد أن نلفت الأنظار إلى هذا لكي نتداركه المرة القادمة. هكذا علق أناس، منهم أشخاص بخبرة درية شرف الدين، على الموضوع. وطالبوا بأخذ هذا في الاعتبار المرة القادمة.

قوم إيه!! جريدة الأهرام تفرد تحقيقا في الصفحة الثانية، عنوانه "الصورة التليفزيونية لحديث الرئيس". هذا يعني أن تلك الصورة التليفزيونية لفتت أنظارهم، وأن لديهم عنها ما يتناقشون بشأنه. هذا إقرار بأن صورة حديث الرئيس تحتاج إلى "آراء" بشأنها.

تخيلوا. اكتشفنا أن ما لفت نظر جريدة الأهرام هو روعة التصوير في حديث الرئيس. وأن للخبراء الذين استضافهم التحقيق رؤية وتفسيرا لـ"عمق المعنى" وراء هذه المَرْجَحة غير المُبررة للكاميرا (ما عدا رأيا واحدا ذيلت به الأهرام ريبورتاجها للقراء النادرين الذين يُكملونه). يعني الأهرام تقول للرئيس: المخرج اللي أخرج لحضرتك الخطاب الأخير دا عظيم، ياريت يفضل على طول، ونجيب منه كتير.

الكارثة الأكبر أن يكون للجهاز الإعلامي العامل لدى الرئيس سطوة على الأهرام، وأن يكون هو الذي طلب تحقيقا كهذا، على طريقة "بتكتب يا أهرام!" فيكون هو المؤلف والناقد ورئيس لجنة التحكيم أيضا.

السنة الأولى للرئيس مهمة جدا في تعريف أساسيات الحكم، وصياغة علاقته بالمجتمع. من الظواهر المتكررة في عالمنا السعيد أن يبدأ رؤساؤنا السنة الأولى وهم مفعمون بالأمل باعثون عليه، ثم ينعزلون، ولا يسمعون إلا من حولهم. هكذا كان الرئيس مبارك في سنواته الأولى.

لا نريد أن نكرر هذا لو سمحتم. لا نريد أن نكون مجرد أوعية وظيفتها استقبال ما ينزل من حنفية المتحدثين باسم السلطة. لقد جربنا هذا من قبل وفشلنا. لكن من الإعلام الرسمي والمواطنين الشرفاء من يصرون على أن نجربه مرة أخرى. من يصرون على ملاحقة أي اختلاف والتحفيل عليه، وعلى امتداح كل ما يأتي من جهة السلطة والاحتفاء به. حتى لو كانت السلطة لا تحتاج إلى هذا.