التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 06:48 م , بتوقيت القاهرة

كلُ شيء يجري

من أصعب ما تتورط به، هو أن تكتب مقالا ترسي فيه للآخرين بعض القواعد في المعاملات، وتتكلم معهم عن الأحوال المثلى التي قد توفر السعادة للجميع. قتنسى أنك أنت أيضًا مجرد "واحد من الجميع".


ولذا، وجب علىَّ أن أتذكر دائمًا، وأن أُخفي مقالاتي الأخيرة عن زوجتي، حتى لا تكتشف ما بها من اختلاف عن الواقع. أو يكون الحل أبسط، فأقر لها ولكم "على بلاطة" أنني كثيرًا ما أكون أنا "عبد الشكور".


وما أحاول فعله الآن هو محاولات لكسر دائرة مغلقة حلقاتها هي تربية الصغر المنعكسة على ممارسات الواقع الحاضر. فلا نظل دومًا حبيسي ما وجدنا أنفسنا عليه وما تلقيناه وشاهدناه.


أحاول أن أرسي منهجًا واضحًا لهدفي من مقالاتي هذه. لقد كان الهدف فى أول مقال "أنا أحبك". كان الهدف هو كيف يأتي عليك صباح يومٍ وأنت في الخامسة والستين من عمرك، ويكون من السهل جدًا عليك أن تتلقى من أحد أبنائك / بناتك كلمة "أنا أحبك" وتردها بنفس العاطفة وبدون أدنى صعوبة أو اندهاش.


ولكي أكون أكثر وضوحًا، فمقولة الحب تختلف عن إحساس الحب. مقولة الحب هي فعل، وفعلٌ يحتاج إلى جرأة، لن تتوقعه أو تفعله ما لم تؤد ما يلزمه من التزام.


لقد تصورتُ أن تحقيق هذا الهدف يبدأ العمل له من لحظة ميلاد المولود، ثم رجعت إلى ما قبل ذلك أثناء حمل الأم، تلك التجربة المثيرة التي يُمكن أن يجعل منها كل زوجين أجمل ذكرى حياتهما، أو يجعلا منها مجرد "تجربة بيولوجية"   لثلاثة أفراد منفصلين.


ثم ذهبت إلى ما قبل ذلك، إلى أول عهد الزواج، عندما يأتي العم "صالح" وأمثاله لنصح أحد الزوجين، وغالبًا ما تكون المرأة، بقوله "كوني له شكرية، يكن لك عبد الشكور" ، فيرد عليه كلا الزوجين أن "متشكرين يا عم" لقد استبدلنا بك طاولة الحوار التي ستغنينا عنك، ببساطة لأننا بشر لا تسري علينا قوانين الفيزياء بكوني له، يكن لك.


أما اليوم فأنا أحاول أن أُظهر مبدأً حياتيًا يحاول الكثيرون إخفاءه، وقد يساعدك (بفتح الكاف وكسرها) التعامل معه بواقعية على الكثير فى حياتك، بدءًا من اختيار من تتزوج والتعامل معه بعدها. وهو أن "كلُ شئٍ يجرى".


بمعنى أن كل شيء يتغير ولا يبقى على حاله. سنة الحياة، أو كما قال "هيراقليطس" (ت. 480 ق.م) “الثابت الوحيد فى الحياة هو التغير"، لقد قال أيضًا نفس الفيلسوف: "لا نستطيع أن ننزل مرتين إلى النهر نفسه، ذاك أنني عندما أستحم فى المرة الثانية يكون النهر قد تغيّر، وأنا أيضًا".


نعم، وأنت أيضًا. ليس فقط النهر هو الذي يتغير بفعل جريانه إلى المصب، بل كل منا أيضًا، وعلى كل المستويات الزمنية، بدءًا من ملايين الخلايا التي تتساقط عن وجهك في كل مرة تغسله فيها، ليكون لديك حرفيا وجهًا جديدًا مع كل مرة، إلى أن تتذكر نفسك منذ أربع أو خمس سنوات. كيف كنت تلبس، تفكر، تشعر، تتكلم، تتصرف...


كيف كانت أثناء دراستها فى الجامعة وكيف أصبحت الآن بعد خمس سنوات من تركها للعمل؟!


كيف كان يحبني قبل أن ينتقل إلى عمله الجديد منذ ثلاث سنوات؟!


لقد قالت لي زوجتي حين مرة أنني الآن أتحدث معها بلهجة الكتب التي أقرأها (كنت أقرأ في المغالطات المنطقية).


لم أعد أنا هو ولم تعد هي كما كانت، ولا أنت ولا من تحب، ولا زوجتك ولا طفلتك. 


باختصار... "كل شئ يجري".


وإن كان من الصعب أن تتحاور مع شريك حياتك لتتفقا على شيء ما خلال 5 دقائق، فمن الأصعب أن تظل على نفس المنوال من الوفاق الدائم وكلاكما يتغير. تماما كالفرق بين التصويب من وضع الثبات والتصويب من وضع الحركة في الرماية.


ومع ذلك، فهذا سحر الحياة. لابد أن تعلما أن الجمود يعني الموت، والتغيير الدائم يعني أن كلاكما عنده المقدرة أن يؤثر ويتأثر. لا تلم نفسك ولا تلم شريك حياتك على التغير فهو ليس ذنبا. الذنب هو أن نكف عن الحوار. أن نكف عن حرصنا لتبيين وجهات نظرنا. الذنب هو أن نترك التغيير يجرف كل منا إلى ضفة مختلفة من النهر، فلا نصْحُو إلا وكلانا لا يسمع صوت الآخر. الذنب هو أن نكف عن الوضوح.


حبيبتي إن كل شيء يجري، وكل شيء يتغير، ولأننا نعلم هذا منذ لقائنا فقد اشترينا طاولة حوارنا مستديرة، نستطيع أن نجلس على أي طرف منها، وتظل مستديرة.


للتواصل مع الكاتب