الغدر تلك الصفة المقيتة يكرهها الجميع ظاهرياً، ولكن أصبحوا يمارسونها ليس تحت مسماها وإلا احتقرهم الجميع، ولكن يبررون ويبررون حتى باتوا يمارسون الغدر بطريقة شيك، وكيف للغدر أن يكون بطريقة شيك وأن تُبرر خيانة ثقة من وثق فيك ؟!

التبرير للغدر بشياكة أو تسميته أسماء أخرى لن يُغير منه، ولن يشتبه على الناس في تغيير الحقائق، فهو غدر بل سموا الأشياء بأسمائها، لا يحق لكم أيها المتحذلقون أن تعدوا الغدر سلوكاً عقلانياً، ولا أن تسموه ذكاءً أو حذاقة.

يقول أمير المؤمنين: "أيها الناس إن الوفاء توأم الصديق ولا أعلم جُنة أوفى منه، وما يغدر من يغدر من علم كيف المرجع، ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، مالهم قاتلهم الله!! قد يرى الحُوّل القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا جريحة له في الدين".

كل غادرٍ يختلق لنفسه ألف عذر وعذر ليقنع نفسه أنه على صواب، اقنعني بأي شئ إلا الغدر، فهو يحطم القلب، وينزع الحياة من أحشاء الروح، ويبقى إلى آخر نقطة في قاع الجرح.

يقال في أثر الغدر: "سقط الواثق في بحر دمائه مغدوراً به دون مغيث أو مجيب لآهاته، فراح يلفظ أنفاسه الأخيرة واحدة تلو الأخرى، يرفع يدًا ويُسقط أخرى ويرتمي على صدره مرة وعلى ظهره أخرى، ترى ذلك الجرح العميق فتدرك مدى الحقد في اليد التي فتكت به، فلا تملك إلا أن تقول رحم الله ذلك الواثق، فقد عرفت عظيم إبداعه من عظم جرحه، فتسأل عمن غدر به فتجد الناس الصامتة تشير إلى من يحمل نعشه ويحفر قبره ويترحم عليه والدموع الكاذبة تنهمر من عينيه".

وما الغدر إلا نقض للعهد، وترك الوفاء به لا يتلبسه إلا لئام الناس، فالغدر يترفع عنه النبلاء وينفر منه العقلاء، لا تقل إنسان ولا حيوان بل وحوش الحيوان كالذئاب، صفة من لا دين له ولا مروءة، صفة من كان حقيراً بين الناس ذيلاً لرؤوسهم عبداً لأحرارهم .

إنْ يطعنك أحدهم في ظهرك أمر وارد، لكن أن تلتفت فتجده ممن وثقت بهم فتلك طعنة أخرى غرزت في قلبك، من المؤسف أن تبحث عن الصدق في عصر الخيانة وتبحث عن الحب في قلوب جبانة، لكن في عالم حافل بالعداء والقسوة تبدو المحافظة على البراءة مستحيلة.

سيقف الناس يوم القيامة بين يدي الحكم العدل الله، سبحانه وتعالى، فيحكم بين الناس، ويقف الخصم أمام خصمه ويدلي بشهادته ومطالبه فيحكم الله تعالى للمظلوم على الظالم، ولكن بالنسبة للغادر سيكون الخصم معه ليس المغدور فحسب بل الله تعالى هو الخصم، أي يكون الحكم هو الخصم وهذا من أشد المواقف على الغادر لذا ورد عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام قوله: " قال تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى ثم غدر، ورجل باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره".

أهل الغدر سترفع لهم ألوية يعرفون من خلالها ويفتضحون بين أهل الحشر، فيعرف الغادر ومقدار غدره وتكون الفضيحة على رؤوس الأشهاد.

الغدر واحد من أكثر التجارب البشرية إيلاماً وخصوصاً من الأشخاص الموثوق بهم، فيسبب لنا جرح غائر يسحب سجادة "الواقعية" من تحتنا، وعلى النقيض فإن خاتمة الرواية الفرنسية الرائعة "مونت كريستو" تتلخص في أن تجربة الانتقام أشد وطئاً وضرراً على نفس المغدور المنتقم وتأخذك تلك الرواية في دهاليز شتى، لتصل بك إلى هذه الخلاصة في الختام، إذ من الصعب أن ينصح أحد شخصاً مغدوراً به بما يجب عليه أن يتخذه، فالمشاعر الداخلية وشدة إيلام الغدر لا يمكن أن يشعر بها إلا المغدور.

وعلى النقيض فإن الانتقام أحياناً فيه ما يولد راحة نفسية ويجعل صاحبه يقضي فترات منتشياً، ويرى إن كنت تنتقم من الذين يسيؤون إليك فهذا عمل إنساني، وإذا كنت تسامح المسيئين إليك فهذا عمل فلسفي، ولكن أنْ تعمل الخير مع الذين يسيؤون إليك فهذا عمل ملائكي.

الغدار هو نفسه الخائن هو نفسه المنتقم من نفسه، نعم ينتقم من نفسه فهو يعيش حالة اضطرارية مؤقتة بينه وبين نفسه، في وقت يظهر للعامة على أنه إنسان طبيعي للغاية ويُتقن تمثيله حتى أمام أقرب الناس له، لن يغدر هذا الشخص من دون أن يخون، فالخيانة تأتي أولاً وثم تبعاتها ولا يدرك ما خلفه من مشاكل وأضغان وأحقاد ومشاعر متأججة بالألم، نعم خاف من الذي يسامح ولا ينسى ومن الذي يصالح ولا يغفر.

لست من أنصار الانتقام حقيقةً، فالألم الذي يصاحب الانتقام على نفس المنتقم المغدور لا يقلل من الألم الذي يصاحب الغدر على نفسية المغدور، ولن يشعر به أو يتألم عديم الإحساس الغادر المنتقم منه. تقول الحكمة: لا تنتقم من غادرك ولكن اجلس على حافة النهر وانتظر، ولسوف ترى جثته طافية فوق الماء بعد قليل.. دون أن تلوث يدك بدمه.

اللهم باعد بيننا وبين الغدر والانتقام واجعلنا من عبادك الصالحين.