التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 02:51 م , بتوقيت القاهرة

عن عدم اليقين

أفضل الناس- في رأيي - هوا أكثرهم قدرةً على تحمل التوتر، عدم اليقين، التشكك، قدرتهم على تحمل فكرة أنهم "ميعرفوش حاجة"، قدرتهم على تحمل أنهم مش أفضل الناس في العالم، أنهم جهلة، قدرتهم أنهم ميضحكوش على نفسهم في محاولة لتغطية كل خطأ وتبريره بأنهم مش هما اللي غلطوا، شعورهم بأنك من المتعة أنك تبقى جاهل، وتمارس فعل المحاولة والخطأ بالضبط زي طفل مولود من كام شهر.


لكن.. هو ليه الإنسان محتاج ليقين يعيش جواه؟


ببساطة علشان ده مريح، الإنسان محتاج حقائق ثابتة علشان يعرف يعتمد عليها، محتاج عالم واضح محدد المعالم، لأنه بيخشى أنه يقول: "في رأيي كذا وكذا وكذا"، وبيفضّل أنه يقول: "الحقيقة بتقول كذا وكذا وكذا"،  علشان ميقابلش هجوم ورفض، عاوز يتحامي في نَص، في حقيقة، في ثابت، مش عاوز أعداء.. لأنه بيخاف بطبعه وبيتمنى إرضاء الجميع وده مستحيل.


للسبب ده هتلاقيك دايمًا غير قادر على أنك تنفذ حلا ما للمشكلة - أي مشكلة - وأنت مش متأكد 100% أنه صح، مش قادر تاخد قرار بإنك تسيب شغلك مثلاً، أو تروح تكلمها - البنت اللي هناك دي -  أو تشتري العربية اللي بتحبها، أو تسافر، أو تدرس فيزيا وأنت جايب مجموع طب، أو تسيب حد زعلان أو .. أو .. أو .. الخ، مش قادر تعمل ده كله لأنك مش عاوز تخطّي أي خطوة لقدام في المجهول، وأنت مش متأكد بشكل كامل من النتايج، ورغم أنك بتدّعي أنك فوضوي وتايه إلا انك لازلت بتمشي على خطة بتقول :"لازم أبقى عارف ومتأكد من نتيجة قراراتي وإلا فلأ ".


علشان كده بتقعد 10 سنين من عمرك - مثلاً - تشوف إذا كان ممكن تبقى فيزيائي بارع أو لا، تملا حياتك باختبارات الـ IQ ، و تشوف إذا كانت شخصيتك شبه شخصية الفيزيائيين الكبار ولا لأ، وتفكر كتير، كتير، كتير جداً، كتير تنين يعني، إذا كان ممكن تزق نفسك زقة واحدة لقدام و تجرب.. بس !.


في حين أنك كان ممكن تجرب سنة واحدة بس أنك تدرس كوانتم مثلاً وساعتها هيبقى عندك تجربة عملية تقدر تقيم ذاتك من خلالها وتاخد قرار. فيه حاجه اسمها "أفضل الحلول المتاحة إلى الآن"، فيه جملة بستخدمها دايما بتقول "قدر الإمكان"، اللي نقدر عليه، اللي قدرنا بعد تفكير أننا ننجزه، حل مش نهائي لكن طالما مفيش أكثر من كده فلنستعمله.


مفيش يقين واضح ومحدد وسهل، لكن فيه احتمالات، فيه احتمالات كبيرة واحتمالات صغيرة، فيه توقعات كويسة وتوقعات نص نص وتوقعات في الأرض، وفيه آمال وأحلام، لكن مفيش يقين حقيقي، حتى في العلم، مفيش أي يقين كامل أن أي نظرية مثبتة وموجودة دلوقت ممكن تصمد لفترة طويلة، كله ممكن يقع مع وجود اختبارات تكذيبيه متتالية، لكن..


هل أنت عندك القدرة على انك تبني من جديد زي ما العلم بيعمل ؟


ده – السؤال اللي فات ده - مهم جداً، لأنه بيعطينا فكرة عن طريقتنا الخاطئة في التعامل مع الخطأ، وهي أننا مش بنعرف نقدم بديل، مش بنعرف نفكر بشكل موجب بحيث لما الخطأ يقع نبطل تبرير ونتجاوز الوضع ونحاول إيجاد بديل فوراً، وده سببه أنك - أصلاً - مكنتش متوقع أي أخطاء، لأنك مفترض أنك بتعمل كل حاجه صح، لأن عندك يقين زائف في رأيك، وهنا بالتأكيد عرفنا إجابة السؤال المهم ده: ليه بنقع في نفس الخطأ أكتر من مرة ورا بعض؟                                                       


ليه بنعمل زي الشخص اللي خد 120 قلم على سهوة؟


لأن الخوف - حتى الخوف- بنمارسه بمثالية، بنخاف لكل شيء يضيع فوراً، فبنحاول نتمسك بطبعنا الحالي على أنه الحل في إنقاذنا، شخصيتنا الحالية، بنخاف من أي تغير في ذواتنا لأنه غير معروف النتائج المستقبلية بتاعت التغير ده ممكن توصل لفين، ومن هنا بيتكرر نفس الخطأ مرة واتنين وعشرة، لأننا بعد كل خطأ بنضحك على نفسنا ونبرر لنفسنا ونقول إننا كنا صح لكن حصل كيت و كيت وكيت.


 وننسى، بعدها - وبما أننا مغيرناش أي قواعد و لا لعبنا ف اي زراير ليها علاقة بذواتنا - لما بتتكرر المشكلة بنغلط تاني، وهكذا تفضل دايرة الحماقة مقفولة إلى الأبد، إحنا غالبًا بنحاول نظهر بمظهر اللي بيحاول يحل المشكلة، لكن في العمق.. مش بنحاول من أصله، إحنا بس بنتجاوزها علشان نعرف ننام وننبسط وإحنا حاطين راسنا في الرمل.


لذلك أظن أن أكبر جرثومتين لازم نتخلص منهم كبشر هما: اليقين، المثالية. وهنا بستخدم كلمة "المثالية" بمعنى "الكمالية"، اللي هي رغبة الإنسان في أنه يبقى كامل وكل شيء حواليه كامل، مش الفلسفة المثالية .


في أثناء محاولاتك الدائمة لإيجاد حلول لمشاكلك- أي مشاكل - وده بيتضمن مثلاً مشكلتك مع مديرك في الشغل أو مراتك أو جوزِك أو صاحبك اللي مبتعرفش تقف في وشه - علماً بإن العالم هوا عبارة عن مجموعة من المشكلات اليومية - في أثناء محاولاتك ديه تدخل الجراثيم ديه وتعطل خط سير حياتك تمامًا، وتوقف المراكب السايرة، وتمنحك شعورر دائم بإن العالم ميستاهلش، وأنك لازم تناملك 4 ساعات كمان وتبقى تصحى تواجه.


لذلك هتلاقي أنه رغم اختلاف الفلاسفة على مذاهيهم واتجاهاتهم، إلا أن الجميع اتفق على أن البحث جوة ذاتك هو أول طريق الخلاص، وعيك بذاتك، هناك في العمق جواك حيث لا يوجد سوى براميل الزبالة ذات الرائحة العفنة، سوى رغباتك الدفينة المكبوتة وحماقاتك اللي بتحاول تغطي عليها قدر الامكان، يوجد مفتاح كنز علي بابا الكبير،  التحرر.


لا شك أني بحاول دايماً استخدم لفظ "تحرر" بدل من "حرية" .. لأن المصطلحات المطلقة زي "حرية" مش بتثير أي انتباه عندي، لأنها مثالية أكتر من اللازم ، أما "التحرر" بيعطيني صيغة عملية أكتر.. فرصة أكبر للمحاولة.. مش لازم اوصل "للحرية"- وأظن أني غالباً مش هوصل - لكني مستمر في محاولاتي الفعلية للتحرر، مرة من قيد اللغة، مرة من قيد العادات المجتمعية اللي اتركبت فيا، مرة من قيد العمل، مرة من قيد ثوابتي، مرة في مرة في مرة.. هو شعور رائع في كل مرة .. أشبه بمغامرات تان تان بلا شك !