التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 05:19 م , بتوقيت القاهرة

الذي أخذني مني

كان يومًا أغسطسيًّا، جمع كل ما في أغسطس من طول وحرارة وملل، ثم جاء الليل لطيفًا، فوقفت وسط ميدان التحرير أتنفس الصعداء، ومعي صديقة  تنتظر صديقها، وأنا أتعجل الانطلاق إلى سور الأزبكية، وأنظر إلى الساعة كل حين.


ثم ظهر صديقها، بقامة متوسطة وعينين باردتين، وحيّانا بهزة رأس معتذرًا عن التأخير، فقدمتني له قائلة:


-"إنها تدرس اللغة اليابانية مثلك".


نظر إليَّ بعينين مقيمتين، وكأنه لا يُصدق أن تلك "الأوزعة" قادرة على إتقان لغة معقدة تُكتب بألفيّ رمز، وثلاث أبجديات، ثم ابتسم، فأشرقت من عينيه الشمس، ومد يده ليصافحني، وحياني باليابانية:


-"تشرفت بمعرفتك".


وهكذا.. في السابع والعشرين من أغسطس 2010، في تمام الثامنة والنصف مساءً، وجدت نفسي وقد وقعت في الحب، حتى النخاع، حتى أعمق أعماقي، حب انتزع مني كل شيء يمتُ إليَّ، وبلغ كل كرة دم حمراء، وكل ضفيرة عصبية، وكل نقطة مسام.. باختصار.. حب مدمر ساحق عاصف كقلب إعصار، مدوخ كدوامة، سامٌ كـ.. كالحب نفسه.


اعتدت اضطراب قلبي كلما لاح مقتربًا ونحن ننتظره أسبوعًا بعد أسبوع، وكنت أنسى التنفس وهو بقربي.. كنت فتاةً باهتة، لا تجيد في الحياة إلا القراءة، والكتابة، ودراسة اللغات، وتأمل النجوم، وكنت أيضًا فقيرة، لم أمتلك قط من المال ما يكفي لأتأنق وألمع وأجتذب الأنظار.. كنت باهتة، وكان هو أشد لمعانًا من "بولاريس".


ولكنني بكل غباء البراءة آمنت أنه سيكون لي يومًا، وأن الأقدار ستكون رحيمة وعادلة، وستجعله قادرًا على اختراق القشرة الخارجية الباهتة، ورؤية ما خلفها من تميز وجمال، وتوهج، وجنون به.


لم نصر مقربين قط، تحدثنا مرات معدودة، ثم تباعدت اللقاءات، ثم زف لي الفيس بوك يومًا نبأ خطبته السعيد.


كم مرة سخرت من حمقى المسلسلات والأفلام الذين يعانون عند تورط حبيبهم مع آخر؟ كم مرة قلت: "واااع! بالله عليك احتفظ ببعض الكرامة، فلم ينته العالم".. آلاف المرات سخرت، ولا أزال أسخر حتى اليوم، لكن فقده علمني معنى الوجع الحق، ومعنى الفقد، وجعلني نهبة لكل ألم قُدِّر للمحبين.. واعتدت الشعور بألم في صدري وكأن خنجرًا ينغرس فيه، ويتحرك ببطء إلى أعلى، يمزقني أشلاءً، ويستقر في حنجرتي فأعجز عن نطق كلمة.. بسببه أمضيت شهورًا أحدق إلى سقف حجرتي، بذهن خاوٍ وقلب منتهب كالصندوق القديم، لا أستطيع النهوض لمواصلة حياتي، ولا أملك أدنى رغبة في الحياة، وتمنيت الموت أكثر مما تمنيت بلوغ أحلامي.


انفصل عن خطيبته، وأحب أخرى، وانفصل عنها، وأحب أخرى، وخطب ثالثة، صار أقرب إليَّ أبعد مني بسنوات ضوئية، وبقيت أراقبه ككوكب عاجز قصيّ يسبح في مدار نجم عظيم.. من قال إن للبشر – مثلي – الحق في امتلاك النجوم؟ إذا ما تجاوزوا قدراتهم وطمحوا إلى ما هو أعظم منهم بمراحل كان لزامًا عليهم أن يجربوا هذا الألم.


حاولت عقد معاهدة صلح مع ألمي، وصليت لله كثيرًا ليهبني خلاصًا بلا أوجاع، لكن صلواتي بقيت معلقة في السموات أعوامًا أربعة، صادقت خلالها الوجع، والأغنيات التي تحكي قصتي، وكل شيء يبقيه داخلي وإن كان يقتلني، حتى اختفى ذات يوم من حياتي إلى الأبد، ورحل كنجم انتهى عمره فانفجر.


لكنه ظل ماثلًا أمامي وكأن رحيله محض وهم، وكم من مرة أجفلت شاعرة به جواري دون أن يكون موجودًا حقًّا، حتى أيقنت أنني لن أتخلص منه أبدًا، وسيبقى إلى الأبد كلعنة لا تنكسر، وصار التلهي به عن العالم كله هو روتيني، وأصبح كينونة أهرب إليها في لحظات وحدتي، وشرودي، وتفكيري، وكتابتي.


لأعوام أربعة ظل يسكنني كالروح.


ثم استيقظت يومًا كالآخرين، وعند منتصف النهار انتبهت إلى أنني لم أفكر فيه منذ الصباح، وعزيت الأمر إلى إرهاقي، لكن نسيانه تكرر، ونسيان نسيانه تكرر، حتى غاب عني دون أن أشعر، وخلف فيَّ فراغًا لم أستطع تعريفه بدقة.


واليوم فقط عرفت أي فراغ ترك، حين غاب فقدت المأوى الذي كنت إليه ألجأ، والعالم الذي اعتدت أن أعيشه.. الأغنيات التي كانت تسحقني حزنًا ما عادت تؤثر بي، وكل مسلسل أحببته، وكل قصيدة مسّتني، كل هذا أضحى بلا معنى، حتى أنني ما عدت أعرفني بدونه، وحين يعتريني الصمت لا أجد في نفسي شيئًا مما اعتدتني عليه.


واكتشفت فجأة أنه أخذني مني، وأنني حين نسيته اشتقت إليه أكثر.