"ربيع شتوي" في كليرمون فيران.. وحداد الدكتور جابر
على بعد 425 كيلومترا جنوب العاصمة الفرنسية باريس، وفي مقاطعة "أوفيرن" الصناعية، تتحول مدينة "كليرمون فيران" الهادئة في مثل هذا الوقت من كل عام إلى خلية نحل. آلاف المشاهدين من أنحاء فرنسا والعالم، مئات المخرجين والمنتجين ورجال الصناعة والصحفيين والنقاد، يجتمعون لحضور مهرجان كليرمون فيران، أهم مهرجان للأفلام القصيرة في العالم.
أهمية المهرجان تنبُع بالأساس من أمرين: مسابقاته الرسمية التي تؤهل الفيلم المشارك بها تلقائيا لعشرات المهرجانات حول العالم، التي يأتي ممثلوها لاختيار أفلام مناسبة لمهرجاناتهم من برنامج كليرمون الدسم. سبب الأهمية الثاني هو سوق الفيلم الخاصة بالمهرجان، والذي يُعدُّ أكبر نقطة لبيع وتسويق الأفلام القصيرة على الإطلاق.
للعام الرابع والعشرين على التوالي تُشارك مصر في المسابقة الدولية للمهرجان، وهو رقم يستحق الذكر لا يلتفت له أحد، فمنذ مشاركة المخرج الكبير علي الغزولي بفيلمه "صيد العصاري" عام 1992، لم تتوقف الأفلام القصيرة المصرية عن حجز مكان واحد على الأقل في أكبر منافسة دولية. قائمة مر عليها أسماء مثل مروان حامد وأحمد مكي وسعد هنداوي وأكرم فريد وآيتن أمين وغيرهم، ويستكملها هذا العام المخرج محمد كامل بفيلمه "ربيع شتوي".
مشاركة "ربيع شتوي" تأتي هذا العام وسط اهتمام إعلامي شبه منعدم بالفيلم والمهرجان بشكلٍ عام، بعد تناقص عدد الإعلاميين الحاضرين من مصر بصورة لافتة (بعد مرور أربعة أيام من انطلاق المهرجان لم أقابل من الصحافة المصرية سوى الناقدة أمل الجمل)، وذلك بالرغم من تزايد أهمية المهرجان بشكل عام، ومن المستوى الجيد للفيلم المصري الذي يستحق التحليل بشكل خاص.
حكاية الفيلم باختصار عن فتاة مراهقة تعيش وحدها مع والدها، وتعيش أزمة في مصارحته بأن دورتها الشهرية قد أتت للمرة الأولى. الفكرة بديهية، تنتمي لنوعية الأفكار التي تُدرك غالبا أنها قد قُدمت من قبل حتى لو لم تذكر عملا بعينه قدمها، ويبقى السؤال حول كيفية استخدام الفكرة في خلق عمل طازج، يمتلك نقاط قوة وجذب تجعله جديرا بالمشاهدة، وهو ما نجح فيه محمد كامل وفريقه بصورة واضحة.
الطزاجة تبدأ من بناء الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم، بدءا من شخصية الابنة التي تأتي بعيدة عن التصورات الرقيقة الملائكية التي تقفز للذهن عندما يقرأ ملخص الفيلم، فهي على العكس مراهقة تماما: هجومية وعنيفة في ردودها، بينما يأتي الوالد الذي يفترض أن يكون مصدر الخوف في الفيلم، على النقيض، رقيقا وحنونا، ولكن في إطار صرامة الأب الطبيعية. هذا البناء الذكي للشخصيات خلص الفيلم مبكرا من فخ النمطية، وجعل العلاقة الديناميكية بين البطلين تستحق المتابعة، بما فيها من خوف يحيط به حب وأبوة صادقة اختار صناع الفيلم أن ينتصروا لها في عملهم.
تستمر عناصر الجودة متمثلة في الأداء التمثيلي من إيمان مصطفى وأحمد كمال، خاصة من الممثل المخضرم في دور الأب. كمال تعامل مع الدور بمهارة وخبرة، وأمسك بالصراع المسيطر على الأب، وتمزقه بين خوفه على ابنته وإدراكه لأنه يقوم بدور أكبر من أن يحتمله بمفرده. كل نظرة وحركة كانت محسوبة، حتى وإن كان الممثلان يتحركان ويتحدثان بالطريقة الرسمية للأفلام القصيرة المصرية (الحركة البطيئة جدا والنظرات الطويلة والجمل المبتورة)، وهذا موضوع آخر سأطرحه في مناسبة أخرى. لكن في وقتنا الحالي، تكفي الإشادة بفيلم "ربيع شتوي"، ممثل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان كليرمون فيران.
تعليق خارج الموضوع
خلال رحلة السفر للمهرجان كان عليّ أن أقومَ بتعديل موعد العرض الأسبوعي لجمعية نقاد السينما المصريين، وورشة مبادئ النقد التي تنظمها الجمعية، بسبب قرار وزير الثقافة بإيقاف الأنشطة الثقافية والفنية حدادا على شهداء سيناء، وهي المرة الثانية خلال شهر واحد التي يصدر فيها نفس القرار، بعدما توقف النشاط حدادا على حادث تشارلي إبدو.
القرار المتكرر من د.عصفور لا يُمكن ترجمته منطقيا إلا أن الوزارة تعتبر الأنشطة الثقافية والفنية "تهريجا"، أو على أحسن الفروض أنشطة ترفيهية ثانوية ينبغي إيقافها وقت الحداد. أما النظر إليها كعمل جاد وشريف وضرورة وطنية، يعني ببساطة التعامل معها بنفس منهج التعامل مع الأنشطة الأخرى. المصانع والوزارات والمصالح الحكومية والمدارس والجامعات كلها لا تتوقف عند إعلان الحداد، فلماذا تتوقف المسارح والأوبرا والسينمات التابعة للوزارة؟
الحداد والوقوف في وجه الإرهاب يا سيادة الوزير يكون بمواصلة العمل والتنوير والحرية، وليس بالإيقاف أو التجميد، فما نفعله وتفعله سيادتك معنا ليس تهريجا على الإطلاق.