التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 10:24 ص , بتوقيت القاهرة

احتفال البلدة الحائرة

<p><span style="color:#FF0000;">(1)</span><br />كان القرار حاسما بإقامة الاحتفال بعيد الخير، أملا في أن تغمر الناس السعادة، عمت البلدة الدهشة، كانت الرغبة مماثلة من أهل البلدة العتيقة أن تلحق عصر الأفراح. المُنغصات لم تَزُلْ بعد، كيف تأتينا نوبات الفرح، ونهجر أحزاننا؟ هكذا تحدث أهل البلدة.</p><p>وساد التوتر والقلق.. لكن مذياع البلدة الرسمي حسم الأمر، وأعلن أن بالغد وجبت الفرحة لأجل عيدها المفتخر، الكل يجب أن يبتسم، غدا يوم الفرحة المدموغ بالخاتم المعتمد.<br /><span style="color:#FF0000;">(2)</span><br />أيها الكسول الثرثار، قُم وعلق الزينات، فغدا يوم احتشاد، البلدة بأكملها ستتواجد، لن نجد الفرصة لنلحق ما فاتنا..</p><p>أجبني: لِمَ الصمت؟!</p><p>أتته الإجابة: إني عطشُ يا سيدي.</p><p>نظر الرجل إليه بامتعاض ومضى يكمل خانات دفاتره.<br /><span style="color:#FF0000;">(3)</span><br />ألو سيدي، ما زالت الجماهير مندهشة، لم نستطع أن نحدد بعد ملامح يوم غد، قد أتتني الأخبار أن الاحتفالات ستكون حاشدة، عذرا سيدي، على الهاتف السلكي تأتى أخبار مغايرة بأن البلدة غارقة بالقلق والتوتر وبعض العطش.. أقترح أن نُرجئ الاحتفال.</p><p>أوامرك سيدي.. سنقيم الاحتفال في موعده.<br /><span style="color:#FF0000;">(4)</span><br />مثل هذا اليوم منذ سنوات، قد نمت الأسطورة وتضخّمت بكون السمكة الخبيثة تعيث ببحيرة البلدة هلاكا، تنقل عدْواها لباقي أنواع البحريات، وأصبحت البلدة تتحاكى بكارثة السمكة الخبيثة التي يقترب شرها من كل نفس حية في البلدة، طال شرها الغذاء والشراب وري الزروع.</p><p>لم يكن الأمر في البداية، سوى مزحة صغيرة أطلقها صبي يافع، دائم الارتداء لطاقية من صوف الأغنام، فبدت رأسه كلبدة السباع من مسافات بعيدة، فإذا ما اقتربت وجدتها أقرب لنشارة الأخشاب، قال حينها: أنْ تعالوا نٌجفف البحيرة لاصطياد السمكة الخبيثة!</p><p>ليلتها  كانوا بسهرتهم الأسبوعية المعتادة، يتندرون من رقة حال الكبار وسذاجة عقولهم، وخوفهم المبالغ على مستقبل أبنائهم، وخشيتهم من شر السمكة الخبيثة، فأطلق اليافع ذو اللبدة مزحته، تناول رفاقه الأمر بسخرية محببة، وتداولوا عبارته كمُزحة، وتحوّلت إلى مثل ينتشر فى سهراتهم الصيفية العابثة، ثم كانت الدهشة يوم أن تناولها المذياع بشكل عابر على لسان أحد المؤديين في عمل فني، حتى تناقلتها الألسن، فسارت وشاعت كصدى الصوت بغير توقف، وصارت أحدوثة البلدة وحكمتها الضائعة.</p><p><span style="color:#FF0000;">البلدة تريد تجفيف البحيرة لاصطياد سمكتها الخبيثة.</span><br /><span style="color:#FF0000;">(5)</span><br />لم تكن من عادات أهل القرية أن ينصتوا للصغار، وكانوا يتندرون بأمثال وحِكم وقصص متوارثة، تدرك منها بؤس حال وسوء خاتمة من يتبع الصغار.. أيضا لم يكن أهل البلدة من الظالمين والحق يقال، فقد اشتهرت البلدة دون غيرها بتدليل صغارها على وجه مبالغ فيه، حتى أنها كانت مثار سخرية ونقد من البلدات المجاورة والنائية، يطلقون عنها النكات الساخرة، منها مثلا أن صبية هذه البلدة لا يتوقفون عن الرضاعة قبل بلوغهم الحُلُم، أما فتياتها فهن لا يتوقفن عن الرضاعة حتى يصرن أمهات مُرضعات.</p><p>ربما كانت مبالغات يشوبها الاستخفاف والاستهانة، كعادات التلاسن والتفاخر والهجاء المتبادل، المألوفة بين البلدات المتجاورة، لكن الحق أن أهل البلدة مشهورون بتدليل صغارهم، فيظل أحدهم يتلقى منهم نفقات حياته، حتى يشارف أبواه الموت فيرثهم ويعيش باقي حياته بفضل ما تركوه.<br /> <br /><span style="color:#FF0000;">(6)</span><br />يومها تخلى أهل البلدة عن عاداتهم الموروثة، وقالوا: إن أطفالهم قد كبروا بما يكفي لنستمع إليهم. لِمَ لا يكون ما يقولونه صحيحا؟! كما أننا قد بذلنا لهم شقاء أعمارنا، وكانوا أفضل حظا منا في تعليمهم، وحان وقت جني الثمار..</p><p>كان الاعتراض شحيحا غير مسموع، خاصة حينما بدأ مذياع البلدة يحتفى بالمزحة التى صارت دُرة الحِكم.</p><p>كان الصبية فيما بينهم يسخرون من المذياع والأهل والسمكة والبحيرة والبلدة بأكملها.. حقيقة الحال كان مذهبهم هو السخرية، كانوا ماجنين ولمجونهم كاريزما تجذب حولهم الآخرين، فوجئوا بقدرتهم الغريبة على إقناع الجميع بأغرب الأشياء وأبعدها منطقا وأكثرها تطرفا، بل وبكل حماقاتهم التى كان الكبار يمجّونها ويلعنونها حتى قريب.</p><p> بدأ الكبار يتصابون ويرددون مفرداتهم تدريجيا، بل ويتخذون منهجهم وهيئتهم، بدا أن التصابي كان أمرا محببا للكبار، حينها شعر الأهل أن قد فاتهم الكثير من الهزل وقد مضى بهم العُمر فى الشقاء، ورغم أمثالهم المتوارثة بأن أعظم المصائب تتنزل من مبعث الهزل.. غير أنهم قد تنازلوا عن حكمتهم يومها.</p><p><span style="color:#FF0000;">ويوم تصابَي الكبار، صارت كلمة الصغار نافذة.</span><br /><span style="color:#FF0000;">(7)</span><br />يوم بدأ الصبية فى إعطاء أوامرهم للأهل بتجفيف البحيرة، كان مشهدا أسطوريا تتناقله الألسنة إلى اليوم، بل ونُسخ في كتب البلدة المدرسية يتدارسه النشء ويحفظون بطولاته ونزالاته، حينما وقف الصبية يرتدون ملابس الميدان، ويمسكون بعصا المارشالية، يلقون الأوامر لمن شارفوا الموت بأسْمالهم البسيطة، بنقل المياه وحمل الرديم، استمر العمل طويلا.</p><p>حقيقة هو لم ينته بعد، ومع أن الروايات تضاربت بشأن العثور على السمكة الخبيثة، إلا أن الأمر المثير للشفقة أن عددا من الأهل غير قليل قد أضيروا، وتعرضوا لمقادير لا تتحملها سنواتهم الباقية، وبعضهم مات لقسوة العمل وإصرار الصبية الطفولي على إنهائه كما خططوا.</p><p><span style="color:#FF0000;">تكررت المآسي، وقد روج الصبية أنها من طبائع الأشياء ولا غرابة.</span><br /><span style="color:#FF0000;">(8)</span><br />ومرت أعوام عصيبة.. المذياع يُعلن بدء الاحتفال، لم يمسك أحدهم بالسمكة الخبيثة بعد، والبحيرة قد شحَّ ماؤها وصارت المياه توزع بجدولٍ معتمد للشرب والاستحمام وري المزروعات بين سكان البلدة، العطش يفسد مزاجهم وصحتهم، أتت التقارير بشيوع حالات الجفاف بين الأطفال، وهناك منها من شارف الموت، الكبار يعانون للغاية في أيامهم الأخيرة، بعكس ما خططوا لهدوء نهايات العمر، الصبي ذو اللبدة قد سافر ليعيش على ضفاف بحيرة أخرى فى بلدة سعيدة، وعند حد البلدة المترامي قامت صراعات عنيفة للحصول على قوارير المياه الحكومية.</p><p>اعتاد أهل البلدة ملامح الصراع وقد فسدت أمزجتهم بما لا يُقاس، والصبية مازالوا يعدونهم بصيد السمكة الخبيثة بشباكهم الماهرة، وبهلول البلدة يجوب أحياءها ويردد حكم الأقدمين فى جوف دورقه الصدئ: من سار خلف الصغار، صَبغ شيبته بالعار.</p><p>والمذياع فوق رف المقهى المرتفع، يدعو أهل البلدة للاحتفال.</p>