فاتن.. والحرام
رغم كثرة الأفلام السينمائية التي قامت ببطولتها.. فإنّ فيلم "الحرام" المأخوذ عن رواية "د.يوسف إدريس"، التي كتب لها السيناريو والحوار "سعد الدين وهبة"، وأخرجها "بركات".. يبقى دُرّة الدُرر في مشوارها السينمائي.
حيث قدّمت شخصية "عزيزة" عاملة الترحيلة، التي تنتمي إلى شريحة اجتماعية بائسة كانت تُسمى بالغرابوة، وهم الذين يَفِدون إلى القرى لتنقية الدودة.. ويعتبرهم أهل تلك القرى غرباء عنهم فيما يتصل بأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم وينفرون من معايشتهم رغم البؤس المشترك.. حتى أن "فكري أفندي" مأمور الزراعة حينما أبلغوه أن ثمة لقيط مولود حديثاً وجدوه في الحقل.. هتف في ثقة وعنجهية: همه "الغرابوة.. مفيش غيرهم.. ولاد الكلب".
لقد برعت "فاتن" في أداء شخصية "عزيزة" براعة استولت على جماع مشاعر المتلقين مستوعبة بدرجة فائقة أبعاد الشخصية بمستوياتها النفسية والاجتماعية رغم صعوبتها واختلاف مفرداتها عن كل الشخصيات التي جسدتها من قبل.. وكانت صرختها المُوجعة.. "جدر البطاطا هو السبب يا ضنايا"، ليست مجرد صرخة تبرير أو دفاع عن النفس في مواجهة خطر داهم يوصمها المجتمع من خلاله بالعار والعهر والفضيحة.. ولكن تجسيد بالغ التأثير والدلالة للقهر والشقاء والظلم الاجتماعي الذي يشمل كل "الغرابوة.. كل الفقراء.
ورغم أنه ببعض التأمل نجد أن شخصية "عزيزة" لا تختلف في إطارها العام.. أو فلنقل تعتبر امتدادًا لطبيعة أخلاق الشخصيات التي جسدتها من قبل و"فاتن حمامة" لاقت نجاحًا ساحقًا في ردود الأفعال، وكانت أحد الأسباب القوية في جماهيريتها.. وهي شخصية المرأة الضعيفة التي تحيا في ظل ظروف قاهرة أقوى منها ومن كل قدراتها وحيلها الشخصية السلبية التي لا تؤذي أحدًا.
ولكن الناس والأقدار هي التي تجور عليها.. وكل ما نفعله – كما يرى د.يوسف إدريس نفسه – أن تتألم أمام المتفرجين لتجسد وليس لتطارد ظالمًا حتى تقهره.. ولا تجري وراء قضية وتجاهد حتى تكسبها.. ولكنّها تظل طوال الرواية كالعجينة التي تنغرس فيها الأحداث وتعتصرها المواقف.. وتسحقها الأقدام.. ولهذا فهي دائمًا مريضة أو يتيمة أو تعاني من زوجة أب شهيدة تتعذب كفقراء الهنود على مسامير كُتاب السيناريو والقصص.
لكنها في "الحرام" رغم التشابه في أدوارها الأخرى بصفتها ضحية الحرمان وانعدام العدالة الاجتماعية الذي يوقعها في براثن الحرام.. إلا أن القيمة الكبيرة للفيلم التي جعلت منه فيلمًا عظيمًا تجاوز حدود المأساة الشخصية.
إن الحرام في رواية "يوسف إدريس"، وبالتالي الفيلم، ليس هو "حرام" عزيزة التي تم الاعتداء على شرفها في مقابل كوز البطاطا.. إنما هو "حرام قرية بأكملها مارس كل شخصياتها كل أنواع الموبقات والخطايا في الخفاء.. وظهروا في العلن أطهاراً كالملائكة.. أي أن الازدواجية في السلوك هي التي تعتبر عنوانًا عريضًا للحرام عند "يوسف إدريس" في تلك الرواية.. وفي معظم قصصه القصيرة مثل "بيت من لحم" والعيب.. وحادثة شرف.
فمحجوب بوسطجي القرية يشك في زوجته البدينة، حيث إنه سبق له أن قرأ خطابًا لها إلى رجل في القاهرة أعطته له امرأة في القرية.. معظم الأهالي يشكون في "نبوية بائعة البيض.
والجميع ينتهزون الفرصة – وكأنّهم ينتظرونها– ليسقطوا حرامهم على عزيزة من قبل أن يتيقنوا من ذلك وبقسوة بادية ليلقوا عن كاهلهم ذلك العبء النفسي، الذي يجللهم ويوصمهم بالتغافل والتعايش مع الحرام والسكوت عليه، وغض الطرف خوفًا من الفضيحة والإحساس بالمسؤولية.. طالما ظل في الخفاء لا يعلم أحد شيئا عنه.
فيلم الحرام