التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 01:28 م , بتوقيت القاهرة

من "مي" إلى "العقاد" إلى حجازي

عرف تاريخ الأدب الحديث الصالونات الأدبية التي كانت تُقيمها نساءٌ رائدات.. ولعبت تلك الصالونات دورًا مؤثرًا وهامًا في تفعيل دور الثقافة في المجتمع بإلقاء الضوء.. والاحتفال بإنتاج الأدباء والمُفكرين. 


وقد عرف العرب الصالونات الأدبية والندوات النسائية منذ عهودٍ قديمة، فقد اشتهر في الجاهلية الخطباء والخطيبات والشعراء والشاعرات ومنهنّ "هند بنت الحسن".. وفي العصر الإسلامي كانت السيدة "عائشة" تحفظ الشعر وتتمثل به في مجلس وعرف العرب.. كذلك ندوة "سكينة بنت الحسين" في العصر الأُموي ومنتدى "ولادة بنت المُستكفي" في قرطبة في زمن العباسيين. 


وفي العصر الحديث عرفت مصر صالون الأميرة "نازلي فاضل"، وكان من رواده الشيخ "محمد عبده" و"الزعيم" و"سعد زغلول" و"قاسم أمين" و"علي يوسف" و"أحمد لطفي السيد"، وآخرون من المهتمين بقضايا الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وفي عام (1905) أُقيمت ندوة.. "لبيبة هاشم" صاحبة مجلة الفتاة.. وذاع صيتها.


 وكانت ندوة الآنسة "مي زيادة" أكثر هذه الندوات أهمية وأطولها عمرًا لاستقطابها صفوة كُتاب عصر التنوير على مدى عشرين سنة دون انقطاع، حيث تبلّورت النهضة الأدبية الحديثة في عهد أولئك الكُتاب، الذين استناروا برسالة رواد عظماء حظيت بهم أمتنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد قال "عباس العقاد" في ندوة "مي": "لو جُمعت الأحاديث التي دارت في ندوة "مي"، لتكوّنت منها مكتبة عصرية تُقابل مكتبة "العقد الفريد".. ومكتبه الأغاني في الثقافتين "الأندلسية" و"العباسية".


ثم تسلّم "عباس العقاد" الراية من "مي" بعد وفاتها، وأنشأ صالونه في منتصف الأربعينيات يوم الجمعة.. ويقول في ذلك "أنيس منصور" في كتابة الهام عنه "في صالون العقاد كانت لنا أيام": "كانت رحلتنا إلى بيت العقاد تبدأ يوم الخميس، فنظل نتحدث عنه وعن ندوته السابقة ابتداء من يوم الخميس.. ثم نمشي على أقدامنا إلى مصر الجديدة تمامًا، كما كان يفعل الحُجاج عندما يسافرون من المغرب إلى الأراضي المُقدسة.


 ويكون المشوار حديثًا عن العقاد حتى نراه، ونسارع ولا نرى أي معالم لهذا الشارع حتى أننا لم نعرف شكل البيت ولا المدخل ولا عدد السلالم التي نصعدها إلا بعد سنوات طويلة، فلم نكن نرى أو نسمع.. إنما ندخر الرؤية للعقاد.. وندخر السمع للعقاد.. وقد كان رأسي مثل راديو صغير مضبوط على موجة واحدة، فالمؤشر لا يتحرك إلى محطات أخرى.. فلا محطات أخرى.. إنه العقاد.. وهذا يكفي".


وشهد الصالون قصة حب "العقاد" لـ "مي" التي عرض عليها الزواج، لكنّها رفضت لاختلاف ديانتهما، وانتهت علاقتها به بعد صدمتها لاكتشافها خيانتهُ لها مع "سارة"، حيث ذهبت إليه في مكتبه بالجريدة التي كان يعمل بها، وأعادت له رسائله فبكى بين يديها طالبا المغفرة، ولكنّها أبت وانصرفت في كبرياء.. وعندما ماتت كتب في رثائها واحدة من أهم قصائده التي يقول فيها:


 رحمة الله على "مي" خصالاً.. رحمة الله على "مي" سجالاً.. رحمة الله على "مي" جمالاً .


ولا شكَ أن المُفارقة الصارخة التي تبرز مُعلنة عن نفسها دون الحاجة إلى استقراء ناقد أكاديمي أو استبطان مفكر أَرِيب، تتمثل في تلك الرِدّة الحضارية التي نعيشها الآن ومنذ الأعوام الثلاثين الكئيبة لحكم "مبارك"، مرورًا بسرقة قراصنة الإخوان لثورة يناير، والوصول إلى السُلطة في مشهدٍ عبثي ليس له مثيل في التاريخ.


هذه المُفارقة بين استنارة مجتمع تعيش فيه المرأة سافرة حرة الإرادة تنعم بالمساواة مع الرجل، وتُشارك في بناء الوطن، وتدعم مسيرته الثقافية والسياسية والفكرية.. وبين مجتمعٍ يكرها ويزدريها ويُكفرها ويعتبرها عورة مكانها البيت خادمة ووعاءً للإنجاب وجارية لا تخرج منه إلا إلى القبر.


لكن يدور الزمن دورته.. وها هو "أحمد عبد المعطي حجازي" الشاعر الكبير يستجيب لدعوة الكاتبة الرائعة "فاطمة ناعوت" إلى إحياء تلك الظاهرة الثقافية الهامة بإقامة صالونه وهو على مشارف الثمانين، مبشرًا بعصر جديد مختلف.