التوقيت الإثنين، 23 ديسمبر 2024
التوقيت 08:06 ص , بتوقيت القاهرة

الكل يُحلق في "Birdman"

كيف انتهى بنا الحال هنا؟!.. هذا المكان بشع. رائحته مقززة. نحن لا ننتمي إلى هذه البؤرة الحقيرة.


أول جملة في الفيلم


بمجرد صدور أول إعلان لفيلم الرجل الطائر  Birdman  في يونيو الماضي، كتبت بتفاؤل عن درجة التشابه والتطابق بين الشخصية الرئيسية في الفيلم (نجم سينمائي سابق حقق النجومية بفضل دور بطل خارق من أبطال الكوميكس في سلسلة قديمة باسم Birdman ثم فقد نجوميته للأبد)، وبين ممثل الدور مايكل كيتون. الممثل الذي قدم العديد من الأدوار الجيدة، لكن تظل مرحلة النجومية العالمية محصورة تقريبا مع دور باتمان، الذي قدمه في فيلمين ناجحين من اخراج "تيم بيرتون" أعوام  1989 و 1992  قبل أن يرفض 15 مليون دولار لتكرار الدور في الفيلم الثالث.


ومع مخرج في وزن المكسيكي "اليخاندرو جونزاليس إناريتو" المميز في بناء الشخصيات دراميا، واختيار وتوجيه الممثلين، والذي حصلت أفلامه الـ 3 الأخيرة على 5 ترشيحات أوسكار في فروع التمثيل (21 Grams - Babel - Biutiful)، توقعت ترشيح "كيتون" للأوسكار كأفضل ممثل، ضمن ترشيحات أخرى للفيلم.


الآن بعد المشاهدة، وفي ظل اكتساح الفيلم ترشيحات الأوسكار مؤخرا في 9 فروع رئيسية، تتضمن فعلا أول ترشيح لـ "كيتون" كأفضل ممثل، بالإضافة إلى (فيلم - مخرج - سيناريو أصلي - تصوير - ممثل مساعد - ممثلة مساعدة - مونتاج صوتي - مزج صوتي)، أستطيع أن أقول إن Birdman  أحد الأفلام التي لم تخيّب ظني نهائيا في 2014.


إعلان الفيلم



الخط الرئيسي بسيط. نجم هوليوودي سابق ترك بطولة سلسلة البطل الخارق Birdman  الناجحة منذ 20 عاما، وفشل بعدها في الحفاظ على نجوميته، في محاولة لاستعادة أمجاده، ببطولة وإخراج وكتابة مسرحية مقتبسة من القصة القصيرة "عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الحب". الأزمات تحاصره قبل أيام من الافتتاح، بداية من استبعاده لممثل رئيسي في المسرحية بعد حادث أثناء البروفات، واختياره لـ مايك المثير للمشاكل كبديل له (إدوارد نورتون في أحد أفضل أدواره على الإطلاق)، مرورا بمشاكله الشخصية مع ابنته وزوجته السابقة وصديقته، وتعرضه لضغوط نفسية لا تنتهي من نقاد يتوعدونه بهجوم مدوي على المسرحية قبل أن تبدأ، بسبب تاريخه السينمائي الذي يجعله متطفل على المسرح، انتهاءً بوسواس مستمر، يتمثل في وجود شخصية الرجل الطائر أو Birdman التي تلح عليه باستمرار للاستسلام وترك كل هذا، والعودة لدور مجده السينمائي.


الطابع الكوميدي العبثي السيريالي للفيلم الذي شارك في كتابته 4 أفراد منهم إناريتو نفسه، يجعل التجربة أكثر غرابة بالنسبة لمخرج معروف بأفلام الميلودراما الجدية. وتماما مثلما تبدو الشخصية الرئيسية متطابقة مع تاريخ كيتون السينمائي، وامتداد ساخر لمسيرته الفنية، يبدو الفيلم نفسه ككل كما لو كان صرخة تمرد ساخرة وجنونية من المخرج على أفلامه السابقة وقالبها. اللعبة لا تنتهي عند هذا الحد، لأن "ادوارد نورتون" أيضا، يقوم بدور ممثل يطابق نفس سمعته الفعلية في هوليوود، كممثل موهوب لا يطيق شروط المنظومة، ويسعى للكمال في أدواره، بصورة ترفض أي مساومات من أجل الشهرة أو النجومية.



 الأربعة (كيتون - نورتون - إناريتو- الفيلم ككل)، في محاولة جريئة للطيران خارج نطاق المنتظر منهم. وهو ما ينطبق أيضا لكن بدرجة أقل على باقي الممثلين (زاك جاليفياناكيس - إيما ستون - ناعومي واتس). رغم هذا يظل الفيلم مدين بالجزء الأكبر لبطله. الدور يستنزف تقريبا كل كبيرة وصغيرة من "مايكل كيتون". طاقته الكوميدية.. حضوره كنجم.. قدراته في الدراما الجادة.. ثقته بنفسه التي تصل لمراحل السخافة أحيانا عمدا.. طبيعته العبثية المتقلبة. والأهم طبعا من كل ما سبق، تاريخه الفني نفسه، الذي تحول هنا إلى ما يشبه خلفية حاضرة للشخصية. هذا دور يحلم به كل ممثل في تاريخه الفني ليخلد اسمه، ودور خالد الآن بفضل الأداء الاستثنائي لـ "كيتون".


المبدع الاستثنائي الآخر الذي يستحق الذكر هنا، هو مدير التصوير المكسيكي إيمانويل لوبيزكي، الذي أتحفنا بعشرات الأعمال المميزة سابقا، والفائز بالأوسكار العام الماضي عن Gravity. الفيلم ككل يبدو كمشهد طويل واحد  One Shoot. بالطبع تم استخدام حيل مونتاج وبعض ألاعيب الجرافيك، لدمج عشرات المشاهد، لتبدو كمشهد واحد. هذا التحدي مر به لوبيزكي عدة مرات لتنفيذ مشاهد شهيرة في أعمال سابقة، خاصة تلك التي قدمها مع المخضرم ألفونسو كارون (Gravity - Children Of Men)، ولعل الغالبية لا تزال تذكر مشهد حادث المكوك في افتتاحية Gravity الذي يستمر لمدة حوالي 13 دقيقة دون قطع واضح.



لوبيزكي هنا يقطع الشوط لآخره، ويصيغ الفيلم ككل ببراعة في مشهد واحد. في أي عام آخر، كنت سأجزم من الآن أن سباق أوسكار أفضل تصوير سينتهى لمصلحته، لكن الحصول على الجائزة عامين متتاليين، يتطلب حتما قدرا كبيرا من المرونة غير المضمونة من أعضاء الأكاديمية.


صعوبة المهمة لا تكمُن فقط في الجوانب التنفيذية والتقنية التي تخص مدير التصوير، لكنّها بالأساس تحدي جنوني من السيناريو والمخرج لنفسه قبل أي شىء، لأنه هنا أصدر حكما مسبقا على نفسه من البداية، أن المونتاج سيظل سجين صفحات السيناريو. لا يمكن هنا مع طبيعة الفيلم المستهدفة كمشهد واحد متواصل بصريا، أن يمتد مقص المونتير لاحقا في المراحل النهائية، ليحذف مشهد أو مقطع ما في المنتصف، لضبط إيقاع الفيلم. تحتاج إلى شجاعة حقيقية وقدر رهيب من الثقة بنسخة السيناريو، لتتخذ قرار جنوني لتنفيذ الفيلم بهذا الشكل. إناريتو في هذا القرار أكثر جنونا من بطل الفيلم، الذي يسير عاريا بملابسه الداخلية في شوارع برودواى في أحد المشاهد دون مبالاة، مادامت تلك الطريقة الوحيدة لأداء مهمته.  


هذا التتابع والتواصل البصري لا يخدم فقط العديد من النقاط وأهمها الطابع العبثي للفيلم، الذي ستشاهد فيه مثلا ممثلين خلف الكواليس يتبادلون الحوارات، ثم يندمجون في أدوارهم المسرحية مع فتح الستارة، ثم يعودون لمواصلة خلافاتهم خلف الكواليس بدون قطع، في مشاهد ديناميكية متميزة، لكنه يخدم أيضا روح الفيلم كرحلة واحدة مرهقة لبطل عجوز، قرر أن يستنزف نفسه إلى أقصى درجة، من أجل مهمة واحدة ستحدد احترامه لنفسه، قبل أن تحدد احترام الآخرين له.



أحد أسباب إعجابي بالفيلم، هو نجاحه رغم كل هذه المغامرات والمحاولات والألاعيب التقنية، في الحفاظ على تفاعل واندماج المتفرج مع قصة واضحة. أعشق أفلام هوليوود لكن لنكن صرحاء، أقلية منها يحاول حاليا المغامرة. أحترم أيضا المغامرات الفنية، لكن أقلية منها ينجح في التواصل مع نطاق واسع من المشاهدين. المثال الذي يحضرني هنا مؤخرا هو فيلم  Under The Skin  وهو عمل أحببته واحترمته جدا، لكن في النهاية أثق أنه غير قادر على التواصل مع الغالبية العظمى من الجمهور. 


الرجل الطائر أو Birdman  يحلق في نطاق ما بين فيلم الكوميديا الساخر ذو النزعة الفلسفية البسيطة غير المعقدة، التي تجنح لقواعد جماهيرية معروفة، وفيلم المغامرة الفني ذو النزعة السيريالية غير المقيدة بأي قواعد. حتى لو كانت النتيجة النهائية تتضمن سقوطه على الأرض في بعض المقاطع، يظل وجوده على الأرض في نطاق ما بين المرحلتين، دليل أنه فيلم طار وحلق فعلا وقطع شوطا لا يمكن انكاره للوصول إلى هذه المكانة. 



باختصار:


أفلام عديدة تدعي أنها مختلفة. هذا فيلم قد تحبه أو تكرهه، لكن على الأغلب ستراه فعلا مختلفا عن أغلب ما شاهدناه خلال العام. ترشيحات الأوسكار كلها مستحقة على ضوء ما شاهدت حتى الآن من أعمال. مايكل كيتون لن يعود كنجم شباك، وقد يربح الأوسكار أو يخسرها، لكنه هنا في الـ 64 من عمره، يحلق من جديد ويثبت للكل أن دور باتمان لن يكون بالضرورة المحطة الأهم التي سنتذكره بها للأبد. 


للتواصل مع الكاتب