التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 10:39 ص , بتوقيت القاهرة

ثمن الاختلاف في"The Imitation Game"

قراءتك لكلماتي الآن، تعني بالضرورة استخدامك لأداة كمبيوتر. غالبا ستتفق معي أن هذا الاختراع الذي انتقل سريعًا من كيان عملاق لا يوجد إلا في المكاتب والمعامل، ليصبح في جيب كل منا، هو بالتأكيد أهم إنجازات الحضارة البشرية مؤخرًا، خاصة اذا أضفنا للصورة، ما نتج عنه من ابتكارات عظيمة أخرى، وعلى رأسها الإنترنت.


وفي القرن الأخير، حدث الكثير والكثير عالميًا، لكن غالبًا ستتفق معي أيضا أن أهم حدث على الإطلاق، شكّل إلى حدٍ كبير العالم كما نعرفه الآن، من حيث مقاييس وموازين القوى والثقافات والدول على سطح الأرض، كانت الحرب العالمية الثانية، ونتيجتها النهائية عسكريا بانتصار الحلفاء، وهزيمة دول المحور.


عالِم الرياضيات البريطاني آلان تورينج، محور فيلم The Imitation Game أو "لعبة المحاكاة"، يُصنف طبقًا لآلاف التحليلات والمؤرخين، كصاحب الفضل الأكبر في الإنجازين، وكلاهما بالأساس نتيجة مجهود أساسي واحد، بذله أثناء الحرب العالمية الثانية، لفك الشفرة العسكرية التي استخدمها الألمان لتبادل المعلومات، المعروفة باسم انيجما. وهو ما نجح فيه فعلا بفضل ابتكاره آلة حساب وتحليل خارقة، قادرة على تحليل وفك الشفرة (كمبيوتر تقنيا لكن لم يكن المصطلح مستخدم وقتها). 


ولذلك يُمكننا أن نعتبره أيضا بشكل ما، أول هاكر في التاريخ. وربما أهم هاكر أيضا، لأن الضحية لم تكن أي كيان، كانت هتلر والألمان.


إذا كنت لا تعرف باقي القصة، ستتخيل فورا أن هذا الرجل نال من التكريم والتقدير ما لم ينله أي بريطاني آخر في زمنه، لكن الحقيقة مختلفة، لأنه بالإضافة إلى كل ما سبق، ارتكب ما يعتبره مليارات البشر أكبر جريمة على الإطلاق.. وهي جريمة "الاختلاف".   



سيناريو جراهام مور المقتبس من كتاب أندو هيدجيز، يمزج 3 محاور زمنية طوال الأحداث. الأول خاص ببدء التحقيق مع آلان تورينج، والثاني خاص بدوره في الحرب، والثالث خاص بطفولته التي شكّلت شخصيته. المزج جيد رغم بعض الانتقالات الخشنة أحيانا خاصة في النصف الأول من الفيلم. إخراج مورتن تيلدم بسيط ومتقن، وستعايش الفترة زمنيا باستمرار بفضل جودة التصوير والديكورات والملابس وخلافه، لكن تغيب عنه لمسة الشاشة الكبيرة، ويبدو الفيلم أحيانا أقرب لعمل تليفزيوني. كلاهما إجمالا لا يرقى عمله، إلى ما قدمه فريق التمثيل، خاصة "بيندكت كامبرياتش" في الدور الرئيسي.


الذكاء والاختلاف والغرابة ملامح لأشهر أدوار الممثل البريطاني، ابتداءً من دور المفتش الشهير شيرلوك هولمز في مسلسل Sherlock، مرورا بأفلام مثل The Fifth Estate - Star Trek Into Darkness.. يمكنك أيضا أن تلمح نفس الشيء في أدائه لدور التنين في سلسلة  Hobbit  الشهيرة، وأدائه أحد أعظم عناصر الثلاثية غير العظيمة، ولا عجب أن شركة مارفل اختارته مؤخرا لدور Doctor Strange  في فيلم سنشاهده في 2016،  وكما هو واضح من مقطعي الاسم، فالشخصية أحد أذكى وأغرب شخصياتها على الإطلاق.



سواء كان المشهد ميلودرامي لخلق التعاطف، أو نقاش عقلاني لكسب احترام الجمهور للشخصية، أو حتى مشهد خفيف يظهر من وقتٍ لآخر، لكسر الإيقاع الجاد للفيلم ودمجنا مع الشخصية، كامبرياتش ينجح دوما في خلق حالة التواصل المطلوبة تحديدا مع المشاهد.


رغم أنه هنا يقدم دور رجل عاجز عن التواصل الطبيعي مع الآخرين. أداؤه أجمل ما في الفيلم، ولا يضاهيه أي عنصر آخر. كيرا نايتلي جيدة جدا في دور زميلته في الفريق، والعضو المختلف الوحيد الذي استطاع خلق حالة تواصل مع "تورينج" بفضل تقاربهما النسبي كغريبين منبوذين، وإن كنت لا أرى في أدائها ما يجعله "عظيم"، أو جدير بكل هذه الترشيحات. ولا يزال ماثيو جود يبهرني باستمرار، في دور زرع فيه كالعادة الثقة والحضور الذكوري، وأتعجب من كونه لم ينل حتى الآن دور بطولة في فيلم كبير.


أحد أفضل مقاطع الفيلم يتمثل في حل لغز الشفرة. المقطع الممتاز يمزج بين التمهيد المرح في البداية، ولحظة تنوير متقنة ومشوقة لطرح خيط حل اللغز، انتهاء بمعضلة مهمة تفرض نفسها، وتطرح علينا وعلى الشخصيات، سؤال واضح عن طبيعة القرار الأخلاقي، وهل هو دوما نفس القرار (الأصوب) و(الأفيد)؟.. أو بصورة أخرى، ألا يجب أن نتخذ القرار الأخلاقي، بمعايير نسبية، بدلا من التفكير بطريقة (الثابت المُطلق).. أليس القرار (الأفيد) على أرض الواقع؟ هو في الحقيقة القرار الجدير فعلا بالوصف كقرار (أخلاقي).


هذا التساؤل يكتسب مصداقية فريدة هنا، لأنه يأتي على خلفية حدث تاريخي نعرف كلنا جيدا كيف انتهى.



من السهل مع مسيرة مأساوية كمسيرة تورينج، أن يسقط السيناريو والفيلم في فخ ابتذال وتكرار نقاط التعاسة طلبا للتعاطف، لكن أذكى ما في السيناريو اختزاله لمعاناة تورينج آخر سنوات من عمره، في مشهد عظيم واحد، يجعلك تتخيل وتتذوق مدى معاناة هذه السنوات، بدلا من عرضها بشكل مباشر، ليصبح غياب تفاصيل هذه السنوات، عنصر حضورها وتأثيرها في ذهنك كمتفرج. 


بقي أن أذكر مبدع آخر يستحق الذكر بعد بيندكت كامبرياتش مباشرة، وهو الموسيقار ألكسندر ديسبلات، والجملة التالية لم أتخيل قط أنني سأكتبها، لكن موسيقى الفيلم هى العمل الذي أراه الآن، جدير بانتزاع الجوائز من هانز زيمر وما قدمه في Interstellar.


التيمة الموسيقية الرئيسية


باختصار:
رغم بعض العيوب هنا وهناك، هذا فيلم جيد ومهم جدًا في مسيرة 2014. سيراه البعض كفيلم مشوق جيد عن حدث تاريخي مهم. ويراه البعض فيلما مؤثرا جيدا عن حياة تورينج ونقطة اختلافه وأزمته هو بالأخص، لكن عظمة الفيلم والسيناريو الحقيقية تتمثل في نجاحه في بسط القضية فكريا إلى حد كبير، ليراه آخرون كفيلم عن قيمة "الاختلاف" وأهمية احترام وقبول المجتمعات للمختلفين عموما. في النهاية هذا فيلم عن شخص غير عالمنا للأبد وأنقذ الملايين، لأنه أولا وقبل أي شىء، لم يكن مثلهم ولم يستطع التواصل معهم. 


للتواصل مع الكاتب