التوقيت الثلاثاء، 05 نوفمبر 2024
التوقيت 01:36 م , بتوقيت القاهرة

ممدوح الليثي.. مؤسسة إعلامية تسير على قدمين

<p>رحل المبدع الكبير "ممدوح الليثي" في مستهل العام الماضي، الذي أثرى السينما المصرية بأهم أفلامها السياسية مثل "ميرامار" و"ثرثرة فوق النيل" و"الكرنك" و"الحب تحت المطر" و"المذنبون"، فكان أعظم من حول أدب "نجيب محفوظ" إلى صور مرئية.. بسيناريوهات لا تُنسى.. وعاش حياة حافلة من الإنجازات الكبيرة للتليفزيون المصري كأهم رواده الذين دفعوا بعجلة إنتاجه إلى الصدارة والريادة من خلال رئاسته لأفلام التلفزيون وقطاع الإنتاج ومساهمته في بناء الصرح الكبير مدينة الإنتاج الإعلامي. </p><p>لقد كان مؤسسة إعلامية ضخمة "تسير على قدمين".. حينما تكالبت عليه وهو في قمة توهجه وعطائه قوى الشر.. وتوّحدت إرادة الضباع والثعالب للفتك به تذكرت تلك النصيحة الغالية التي نصحها "مصطفى أمين" لمبدع شاب طموح يحقق قفزات مُبهرة في مجاله مرددًا: "أُحذرك من السطوع السريع.. انجح ولكن بالتقسيط حتى لا يتكاثر أعداء النجاح حولك.. ويتحالفون ضدك.</p><p>"وممدوح الليثي" كان يجري في ماراثون طويل بسرعة فائقة.. يحطم الموانع.. وينسف العوائق.. ويجتاح بقوة وإرادة حديدية كل المعاقل.. ويسبق الجميع وينتزع المناصب.. ويحصد الجوائز.. ويشرأب بقامته إلى عنان السماء.. ويصارع الوقت.. ويغالب النوم.. لذلك انتشرت وذاعت النكتة التي تُعبر عن كثرة حصده للمناصب.. لكنّه رغم ذلك يتمسك برئاسة قطاع الإنتاج، فقيل إن رئيس الجمهورية عينه وزيرًا للإعلام.. ورئيساً لقطاع الإنتاج. </p><p>على إثر مقال "عادل حمودة" الشهير "فضيحة بجلاجل على النيل"، لفق المتآمرون قضايا مُخلة بالشرف ضده للإطاحة به.. فقضى في ساحات القضاء سنوات يدافع عن نفسه وعن تاريخه.. وبرأته ساحة الحق وشهدت له بالنزاهة والترفع عن اقتراف تلك الخطايا.. ليعود نقيبًا للسينمائيين ورئيسًا للجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما.. ورئيساً للاتحاد العام للنقابات الفنية.. ورئيسًا لجهاز السينما (2001 – 2011) </p><p>كان هدف تلك المؤامرات التي وضعته في دائرة الاتهام الإحالة بينه وبين أن يجلس على كرسي وزير الإعلام في إحدى الحكومات. </p><p>وقد شهدت الاحتفالية التي أقامها اتحاد النقابات الفنية في دار الأوبرا لتأبين وتكريم الراحل محاكمة لعصر الفساد والاستبداد في عهد الرئيس المخلوع كما شهدت على وجه الأخص هجوماً عنيفاً ضد "صفوت الشريف".. وخاصة من الشاعر "فاروق شوشة" رئيس الإذاعة الأسبق.. وكانت شهادته كالأتي: </p><p>"كنت زميلاً "لممدوح الليثي" في اتحاد الإذاعة والتلفزيون.. ورفض الشريف تصعيده رئيساً له رغم نجاحاته إبّان رئاسته قطاع الإنتاج.. وكان صاحب اللبنة الأولى في تشييد مدينة الإنتاج الإعلامي في صحراء السادس من أكتوبر.. وأصبحت هوليوود الشرق وذلك خشية تصعيده وزيرًا للإعلام بدلاً من "صفوت الشريف" الذي أعلن أنه سيكون آخر وزير للإعلام.. وأخبرني الليثي أن الدكتور "كمال الجنزوري" اختاره وزيرًا للإعلام ولكن رجال ونساء القصر رفضوا ترشيحه رغم محبة وتقدير رئيسه "مبارك" له.. واستمر "صفوت" الوزير الدائم للإعلام. </p><p>واستدرك قائلاً إن "الليثي" كان ضحية القضية التي لُفقت ضده لإدانته وقضت المحكمة ببراءته عقب طعنه على الحكم فيها، وذلك لإبعاده عن الأضواء السياسية.. ومحاولة تشويه تاريخه السينمائي والشرطي والنقابي المحترم.. ولكن القضاء أنصفه وأعاده مرفوع الرأس والهامة متوجًا بحب الناس. </p><p>وعندما سألته عن شعوره عقب عودته.. وإفساد محاولة اغتياله معنوياً قال لي: ليس في صدري إلا الحب الذي يبقيني حيًا.. وإنسانًا.. ولو وضعت الكراهية في صدري لقتلتي.. وسيجيء يوم سيدخل السجن من ظلمني.. ويُدان ويهان ويكشف تاريخه الأسود.. ولن يستطيع دخول مبنى الإذاعة والتلفزيون مرة أخرى.. وهو بيتي وأهلي.. وبالحب عاش "ممدوح".. وبالحب مات.</p><p>تقلّد "ممدوح الليثي" منصب رئيس جهاز السينما بمدينة الإنتاج الإعلامي.. ذلك الجهاز الذي أنشأ للمساهمة في حل أزمة السينما المزمنة والمستعصية المتمثلة في تراجع حجم إنتاج الأفلام السينمائية وتقلص دور العرض وعزوف المنتجين الجادين عن الإنتاج.</p><p>وما أن جلس خلف مكتبه حتى شرع في وضع خطة طموحة لعددٍ كبير من الأقلام السينمائية المُزمع إنتاجها.. واضعًا في اعتباره ما ظهر من تغيير واضح في ذائقة المتفرج المصري.. وفي آليات الإنتاج السينمائي.. وخريطة الفن والثقافة بشكل عام.. فقط ظهرت موجات مختلفة جديدة من الأجيال الفنية من ممثلين وممثلات وكتاب سيناريو ومخرجين ينتمون إلى اتجاهات مختلفة الأفكار والتصورات. </p><p>وأفل نجم الكثيرين من نجوم السينما ونجماتها الذين سيطروا على بطولات الأفلام سنوات طويلة.. كما سيطر الطابع التجاري والكوميديا الارتجالية السطحية المضمون والتناول.. وتوارت التراجيديات والمليودراميات.</p><p>لكن "ممدوح الليثي" رغم استيعابه لتلك التغيرات فقد آثر التحدي.. وقرر السباحة ضد التيار وتقديم أفلام ذات مضامين اجتماعية وسياسية وإنسانية هامة.. لا تسعى إلى الربح في المقام الأول.. ولا تغازل غرائز أو رغبات المتفرج الدونية. </p><p>قرر الليثي الاستمرار في منهجه في صنع الأفلام الراقية التي تحقق المتعة والفكر.. وترتفع إلى مستوى المنافسة في المهرجانات الدولية.. وأعلن في كل وسائل الإعلام عن خطة طموحة كمًا وكيفًا. يقول في ذلك الناقد "طارق الشناوي" : </p><p>"عندما تم إنشاء جهاز السينما انتقدت تلك التصريحات التي أشار إليها "الليثي" بأن الجهاز سينتج في العام (50) فيلمًا وجدتها مبالغة لا تتوافق مع حقيقة الإمكانيات.. وكانت معركة ساخنة.. وكتبت في روز اليوسف مقالاً عنوانه جهاز الليثي لإنتاج التصريحات، ولكن في النهاية تكتشف أن جهاز السينما قدم أكثر من عشرة أفلام هي الأهم في السنوات الأخيرة مثل "ملك وكتابة" و"معالي الوزير" و"اضحك علشان الصورة تطلع حلوة" و" واحد صفر" و "حب البنات" و"لعبة الحب" و"انت عمري" و"إسكندرية نيويورك" وغيرها. </p><p>والمبالغة التي صاحبت بداية الجهاز كانت جزءًا من البروباجندا التي توارثناها".. منذ بداية العمل بالجهاز إذاً.. و"ممدوح الليثي" كان يعلم جيدًا ما الذي يريد أن يفعله للمساهمة في النهوض بالسينما المصرية من عثرتها.. وجذبه الحنين إلى الماضي – وخاصة حينما كان يتحدث عن الكوميديا – إلى أفلام ما دُرج على تسميتها بأفلام الزمن الجميل.. زمن "فطين عبد الوهاب" المخرج المبدع الكبير وأفلامه الرائعة مثل "إشاعة حب" و"مراتي مدير عام" و"الزوجة 13".. وكتاب السيناريو الكبار "علي الزرقاني" و "الإبياري" و"السيد بدير".. حيث كان الضحك ينبع من مغزى عميق وقضايا هامة تناقش مشاكل الواقع المعاصر وعوراته ومثالب البشر.. وتبتعد عن الإسفاف والتهريج الرخيص والتفاهة. </p><p>أذكر موقفًا طريفًا دالاً على ذلك، حينما استقبل في مكتبه منتجًا دخيلا على المهنة، جاء ليعرض عليه أن ينتج فيلمًا بنظام المشاركة مع الجهاز.. فلما سأله "الليثي" عن السيناريو.. اندهش المنتج متصورًا أن هذا مطلب ثانوي وغمغم بما يعني سوف تتم كتابته فيما بعد.. المهم الآن أن يتفقا على شروط المشاركة الإنتاجية.. أسرع "ممدوح" في غيظ وتهكم موضحًا محاولًا تقريب الموضوع إلى ذهنه – مردداً: </p><p>"أنت تعرض بضاعتك من اللحوم معلقة على باب محل الجزارة الذي تملكه.. حتى إذا مر الزبون أمامها تروق له فيقدم على الشراء.. وكذلك نحن.. "السيناريو" بالنسبة لنا هو "العجل" الذي نغري به "الزبون".. وأوضح له ضرورة كتابة السيناريو أولاً بواسطة كاتب سيناريو كفء معروف أو شاب موهوب.. ثم يتم عرض السيناريو على لجنة قراءة متخصصة ثم تكوينها من كبار النقاد.. فإذا أشادت به.. يتم اتخاذ الخطوات التالية لذلك. </p><p>يتصور المنتج أن "ممدوح الليثي" يسخر منه.. فينسحب غاضباً وهو يهتف متحديا أنه سيشرع فورا في إنتاج الفيلم دون مشاركة جهاز السينما، واثقاً أنه سوف "يكسر الدنيا".. ويحطم الإيرادات تحطيماً بفضل البطل.. وهو اسم مغمور سوف يصنع منه نجماً شهيراً. </p><p>المفارقة أن الفيلم فعلاً "كسّر الدنيا" بعد تصويره وعرضه رغم عدم وجود سيناريو بشكله المتعارف عليه.. وتفسيرنا لذلك سوف نتناوله في مقال آخر.</p>