حلف أسوار الشيخوخة.. قصص تبكي الحجر لعزلة المسنين بسبب كورونا
منذ أن اجتاح وباء كورونا العالم منتصف فبراير الماضي وقطاعات عديدة تضررت من هذه الأزمة، التي أصابت ما يُقارب الـ ستة ملايين شخص وأودت بحياة أكثر من 400 ألف شخص حول العالم، دول كثيرة ارتفع لديها معدل البطالة، صناعات أُغلقت وشركات أعلنت إفلاسها، وهنا في مصر الأمر لم يختلف كثيراً ربما كانت الأوضاع أقل ضرراً من باقي دول العالم، لكن هناك قطاعات تضررت بشدة، ألاف من المرضى كانوا على قوائم الانتظار بالمستشفيات لكن جاءت كورونا لتؤجل علاجات أي مرض سواها، مئات ملايين تضرروا من الحجر الصحي لكنه الوسيلة الأفضل لحمايتهم.
ومن بين كل هذه الأزمات كانت هناك فئة قليلة تُعاني لكن معاناتها لم يستطع أحد سماعها، فهذه الفئة تجاوزت أعمارهم الـ 70 عاماً، إنهم فئة المسنين، الذين وصلت أعدادهم نحو ستة ونص ملايين شخص طبقاً لاحصائية الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2019 ، من بين الستة ملايين هناك 2710 مسناً يُقيمون في 149 دار مسنين تتبع وزارة التضامن الاجتماعي على مستوى محافظات مصر، لكن هؤلاء ليس لهم صديق أو قريب يسأل عليهم، جميعهم عاش مرارة الوحدة في سنوات حياته الأخيرة.
اليوم السابع قام بجولة ميدانية لعدد من هذه الدور ولقاء نزلائها الذين اشتكوا في معظم الأحيان من انخفاض الدعم النفسي لهم بسبب التزام المصريين بمنازلهم واتخاذ الحكومة المصرية قرارات التباعد الاجتماعي للحد من انتشار فيروس كورونا
المادة 83 من الدستور المصري 2014 تنص على " أن الدولة ملتزمة بضمان حقوق المسنين صحيا واقتصاديا واجتماعياً وثقافياً وترفيهياً، وتوفير معاش مناسب يكفل لهم حياة كريمة، وتمكينهم من المشاركة في الحياة العامة، وتراعى الدولة في تخطيطها للمرافق العامة احتياجات المسنين، كما تشجع منظمات المجتمع المدني على المشاركة في رعاية المسنين، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون"..
.
كانت البداية مع دار هداية بركات بحى المهندسين و تعمل على استقبال المسنين من أصحاب الظروف الخاصة أو التى يعجز نزلائها على الأعتناء بأنفسهم بسبب المعاناة مع أمراض الشيخوخة وذلك منذ أكثر من أربعين عامًا والتى تم تجديدها خلال أيام قليلة فقط وتستوعب 30 نزيل بمعدل أعمار ما بين 60 إلى 90 عامًا ويتم إيداعهم عن طريق أشقائهم أو الأقارب مع التأكيد على أهمية وجود 2 من الضامنين للرجوع إليهم فى حالات الطوارئ وذلك بحسب محاسن عبد الحميد مديرة الدار.
لا صوت يعلو على حركة المطهرات
داخل الدار لا يمكن تجاهل حركة التطهير المستمر وروائح الكلور بجانب النشاط المكثف من جانب الممرضات العاملات بالدار فى تطبيق فكرة التباعد الأجتماعى وإبقاء النزلاء فى غرفهم ومنع الأختلاط فيما بينهم فضلاً عن التشدد غى الزيارات وذلك ضمن إجراءت السلامة والأمان التى تتبعها الدار لوقاية النزلاء من فيروس كورونا على الرغم من الأمكانيات المحدودة المتوافرة للدار .
وهو ما توضحه مديرة الدار بقولها :" قبل كورونا كان فيه أنشطة جميلة كان فيه جلسات مجمعة المسنين مع بعض ايضا حفلات عيد الميلاد بفرق موسيقية بمعنى " نعمل عيلاد ميلاد مجمع لكل مواليد الشهر " و وايضا يوجد نادى خارجى اعضاؤه كانوا بيشاركونا الزيارات والاحتفالات كان فيه نشاط ولكن من شهرين تم منع هذه الأنشطة بسب الأجراءت الوقائية ومنها تطبيق فكرى التباعد الاجتماعي ومنع الاختلاط فكل نزيل ملتزم بغرفته" مضيفة:" نحاول من خلال الأمكانات المتاحة والتى نعتمد على توفيرها من مطهرات وغيره من خلال الجهود الذاتية الحافظ على نزلاء الدار ولكن بالتأكيد نعانى من نقص شديد فى هذه المستلزمات حيث تم التواصل عدة مرات مع وزارة التضامن لتوفير "كمامات، وماسكات ومقياس حرارى لاستخدامه للزوار والنزلاء وللأسف الشديد لم يتم الإستجابة وهو ما يزيد من معاناتنا خاصة وأن المكانات المادية محدودة بسبب ضعف قيمة الإيجار المحصلة من النزلاء" مختتمة حديثها بقولها:" قالولنا سيتم منح إعانات للدار ولكن لم يتم منحنا اى شىء".
ما بين قراءة القرءان والأستماع إلى نشرات الأخبار لمعرفة تطورات فيروس كورونا وحجم الإصابة والجهود المبذولة لإيجاد دواء له يقضى الطبيب"عبد الله" وقته داخل الدار والتى يتمتع بها بحب واحترام من كافة العاملين ونزلاء الدار وبحكم عمله كطبيب سابق يحرص على أمدادهم بالمعلومات الطبية والإرشادات الوقائية.
قبل 41 عاما تخرج الشاب وقتها "عبد الله"، من كلية الطب وتحديدا فى ديسمبر 1979 جامعة عين شمس لتبدأ رحلته العملية ومشواره الطويل والذى لم يتصور أن ينتهى به المطاف أحد دور المسنين بمحافظة الجيزة بعيدا عن أسرته التى المقيمة بمحافظة الشرقية ويقول :"حضرت ماجستير 1985 ثم التحقت بالقوات المسلحة لأداء الخدمة العسكرية عام 1983 لمدة 3 سنوات كنت منتدبًا خلال لمستشفى غمرة العسكرى قسم الأطفال وبعد انتهائها رفضت التعيين الحكومى واتخذت قرارى بالسفر إلى المملكة العربية السعودية للعمل كطبيب حر لمدة 30 عاما كاملة و رفضت التعيين فى الحكومة وتحولت لطبيب حر سافرت للسعودية 30 عام وعدت عام 2015 ثم انفصلت عن زوجتى وتركت أولادى ومنزلى فى كفر الشيخ والتحقت بالدار مضيفًا بكلمات مقاضبة " واللى بيسأل عنى اخواتى واولادهم فقط".
وعن تفاصيل يومه داخل الدار يقول:"أحرص على الأستيقاط مبكرًا وأتناول الأفطار وأداء الصلوات ثم متابعة الأخبار ثم قراءة القرءان والحرص على النوم مبكرًا" ويتابع:" وهو أمر يختلف بعض الشىء عما كان معمول به قبل ظهور فيروس كورونا حيث كانت هناك أنشطة مختلفة وزيارات من أهل الخير وبعض الجمعيات الخيرية بجانب الحفلات التى كانت تنظمها الدار والذهاب لبعض الأندية القريبة والتى لم تعد موجودة فى الوقت الحالى بسبب الظروف الحالية والتى يجب التعامل معها بواقعية شديدة حتى نستطع تجاوزها والعودة مرة أخرى إلى حياتنا الطبيعية".
وعلى الرغم من دعوته للتعامل مع الأزمة والأخذ بكامل الاحتياطات التى تكفل الحماية حصار فيروس كورونا إلا إنه لا يخفى ضيقه من غياب الحفلات والأنشطة الترفيهية وهو ما يعبر عنها بقوله:" وحشتنا الحفلات والخروجات والزيارات ونفسنا ترجع تانى الأيام ديه".
ليس معلوما للكافة
" فيروس كورونا ليس معروفا لكل نزلاء النزلاء بسبب أن بعض منهم يعانى من أمراض الشيخوخة مثل الزهايمر ونقص الإدراك" بحسب رئيسة التمريض فى الدار، مضيفة:"لذلك نعمل على مساريين متوازيين هو التوعية بالمرض أسبابه وخطورته وطرق الوقاية منه بالتزامن مع المسار الثانى استخدام المطهرات من كحول وديتول والحرص المستمر على النظافة الشخصية والتطهير المستمر للدار برغم قلة الإمكانات نظرً لأننا نعتمد على الجهود الذاتية فى توفيرها بجانب استخدام قواعد الزيارات والتباعد الأجتماعى وهى الأمور التى قد تؤثر فى نفسية بعض النزلاء ولكننا نحرص على تطبيقها بكل دقة للحفاظ على سلامتم وإن كنا نحاول أن نضفى عليها جانب كوميدى وترفيهى حتى يتقبلها النزلاء لحين مرور هذه الفترة".
الحياه مع الذكريات
الحاجة نعمات أو "نعناعة"..هكذا تعرف بين نزلاء وموظفيها والتى تمثل روح البهجة والأبتسام داخل المكان و تشتهر بايتسامتها المستمرة وكأنها جزء من وجهها بدأت حياة الحاجة نعمات فى دار المسنين بعد وفاة زوجها الذى كانت تعيش معه بأحدى الشقق فى حى الدقى ثم انتقلت للعيش مع شقيقتها لمدة عام واحد هربًا من الوحدة ثم استقر بها الحال فى دار المسنين بعدما طلبت من شقيتها ذلك وهو ما توضحه بقولها :"بعد وفاة زوجى وشعورى بالوحدة انتقلت للعيش مع شقيقتى وكنت احرص على منحها أموال نظير أقامتى ولكن بعد عام واحد أخبرتنى بضرورة البحث عن مكان إقامة أخر ولذلك انتقلت للعيش فى دار المسنين".
بسبب سنوات عمرها المتقدمة لا تعى كثيرا ومعاناتها مع أمراض الشيخوخة من ضعف السمع والذاكرة لم تستطع استيعاب الصورة الكاملة عن سبب التغيرات المفاجئة فى نظام المعيشة بالدار والقواعد الصارمة التى فرضتها الدار لحماية النزلاء ومنع الفيروس من التسلل إلى أجسادهم الواهنة بحكم التقدم فى العمر إلا أن أبنة شقيقتها سعت إلى تقريب الصورة إليها عن فيروس وخطورته على الإنسان وتقول:" معرفش حاجة كورونا غير انه ظهر فى الصين وانتقل لباقى دول العالم وهو ما أخبرتنى به أبنة شقيقتى التى تحرص على زيارتى والتى انقطعت فى الوقت الحالى ولكنها سوف تعود بالتأكيد لزيارتى بعد انتهاء هذه المحنة ".
وعلى الرغم من اقتراب عمر الحاجة نعمات من 75 عاما إلا أنها مازالت تحتفظ بالعديد من ذكريات الطفولة والشباب والتى حكت بعضها منها التنزه وجلسات السمر داخل عدد من الفنادق برفقة أقرب صديقاتها إلى قلبها وكانت تعتنق الديانة اليهودية، ثم رفض والدها احترافها الغناء على الرغم من عشقها له بجانب سنواتها مع زوجها ومدى حبها لها برغم رحيلة منذ عدة سنوات وهى ما تعبر عنه بقولها :" الأيام الحلوة بتعدى بسرعة والناس الحلوة ما بترجعش نفسنا الحفلات ترجع ونرجع نتجمع تانى ".
تمثل الحفلات والأنشطة الترفيهية ودعم نفسى ومعنوى لا يمكن إغفاله بالنسبة للمسنين واختفائها يؤثر بشكل واضح على نفسيتهم والتى لا تتقبل بسهولة فكرة العزلة والوحدة وهو ما تشير إليه أشجان حسن التونى الأخصائية الأجتماعية بالدار بقولها:"الدار كان يهتم بالجانب النفسى و بالنسبة للنزلاء من المسنين لمعرفتنا الوثيقة بمدى تأثير هذه الأنشطة على الجانب المعنوى لهم سواء من مسابقات حفلات ترفيهية وأعياد ميلاد مجمعة والتى كانت تتم بمشاركة عدد من الأطفال الأيتام التابعين للجمعية للدمج فيما بينهم ولكن فى الوقت الحالى اختفت هذه الأنشطة وهو ما أثر بالسلب على الجانب النفسى لهم بدليل سؤالهم عليها باستمرار لماذا اختفت الحفلات ومتى تعود ؟.
صدفة قادتها لحضور إحدى الندوات الدينية فى جمعية الرعاية المتكاملة داخل مديرية تضامن الجيزة كانت السبب فى تعلقها بدار المسنات التابعة للجمعية ورغبتها فى الإنتقال إليها للقضاء على معاناتها مع الوحدة بعد وفاة زوجها وزواج ابتها وسفر ابنها الطبيب للعمل فى السعودية.
الدار للتغلب على الوحدة
عليا محمد الخولى 85 عاما ليسانس أداب وتربية إحدى نزيلات الدار منذ 3 سنوات قالت :" بعد تخرجى من كلية الأداب والتربية رفض زوجى عملى فى التدريس ثم جائت فرصة اخرى للعمل فى السعودية ومكثت بها لمدة خمس سنوات وبعد العودة بات ابحث عن عمل نشغل به خاصة بعد وفاة زوجى وذهاب أولادى للمدرسة فعملت لمدة طويلة فى مديرة حضانة والمسئولة عن نادى الطفل فى أحدى الجمعيات بالقاهرة وقدت استقالتى بعدها خلال تلك المدة خلالها تخرج أولادى من الجامعات وتزوجوا وتركوا المنزل فأبنى الطبيب يعمل فى السعودية وبنتى الأخرى تزوجت فى أكتوبر بجانب ، أهلى وعائلتى من البحيرة فكنت أعانى الوحدة".
وتابعت:" فبدأت أبحث عن وسيلة تخرجنى من وحدتى وكنت قد تعرفت على دار المسنين التابعة لدار الجمعية المتكاملة خلال حضورى إحدى الندوات الدينية وشاهدت حسن المعاملة والرعاية المقدمة وا فكان ذلك حافزًا لى لأكون من ضمن نزلائها والتى أخذت منى جهد كبير لأقناع أبنائى ".
عمل ابنها كطبيب ساعدها فى التعرف طبيعة فيروس كورونا وكيفية انتقاله وأضراره الكبرى على الإنسان والتى قد تصل إلى الوفاه وهو ما جعلها تتقبل الأجراءت الجديدة التى اتخذتها الدار سواء من تعليق الأنشطة الترفيهية والزيارات الخارجية والحفلات الغنائية والموسيقية التى كانت تتم فى مسرح البالون أو الأوبرا وهو ا متعلق عليه بقولها:" فيروس خطير يججب التعامل واتخاذ كافة الأحتياطات لمنع النتشاره أو الإصابة به وإن كنا فى شوق حقيقي لممارسة حياتنا العادية التى كنا نعيشها قبل ظهور ذلك الفيروس " مضيفة:" كان البعض لا يرضون بحالهم ومعيشتهم الأن يتمنون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل ظهور ذلك الفيروس".
مقيدين"".
أصبحنا مقيدين " هكذا بدأت لمياء محمد جمال الدين الأخصائية الأجتماعية بالدار والتى تعمل به منذ أكثر من12 عام، معبرة عن الأجراءت التى تم فرضها فى إطار الوقاية والسلامة من فيروس كورونا ومنها الغاء الأنشطة الترفيهية والزيارات الخارجية حرصًا على نزلاء الدور فضلا عن تطبيق فكرة التباعد الأجتماعى .
وتابعت:" وطبيعى أن تؤثر تلك الأجراءت على نزلاء الدور ولكن نحاول من خلال جلسات الدعم النفسى تجاوز تلك المرجلة مع النزلاء
قواعد صارمة لوقاية المرضى
من جانبها قالت اللواء دكتور هبة أبو العمايم مستشار وزير التضامن للرقابة والتفتيش :"نعمل على تحقيق كل توفير الرعاية والدعم لكل الدور التابعة لوزارة التضامن والتأكد من اتباع الأجراءت الوقائية لحماية النزلاء من فيروس كورونا وذلك من خلال فرض اجراءت احترازية تعمل على حماية النزلاء من تعليق الأنشطة الترفيهية والزيارات الخارجية والتشدد فى زيارات الأهل والأقارب لجتانب توزيع المطهرات وأجهزة القياس الحرارى والملصقات التوعوية"
وتابعت:" وعلى الجانب الأخر نحرص على الا تؤثر تلك الأجراءت على الجانب النفسى للنزلاء من كبار السن فقد تم توقيع بروتوكول من منظمة "اليونيسيف " خاص بالدعم النفسى كما يتم الأعتماد ايضا على الكوادر الأجتماعية والنفسية الخاصة بالهلال الأحمر للمرور على الدور وعقد جلسات مستمرة مع نزلاء من المسنين.