التوقيت الأحد، 22 ديسمبر 2024
التوقيت 11:09 م , بتوقيت القاهرة

ممثل ولد متكلما وعايروه بأمه البكماء فهجر الكلام وأصبح "أصم"..فيديو

جانب من الفيديو
جانب من الفيديو

إذا أردت أن تصنع الناس فاصنع المجتمع أولا، فلا عيب أن تولد وفيك علة، أما أن تولد صحيحًا ويصنع المجتمع منك عليلا فهذا أمر جد خطير يستحق التوقف، فهذا صفوت كل جرمه نشأته متكلمًا وسط أسرة صماء، لم يسلم من تنمر زملائه على أمه البكماء وهى تحاول التواصل مع مدرسيه بلغة الإشارة، فى مشهد يتكرر كل صباح كلما ودعته مع بداية اليوم الدراسى، غلبه شعور بنبذ أقرانه له، فآثر الصمت على الكلام، ولم يعد بمقدوره التعبير عن شكواه، "مبقتش عايز أتكلم معاهم.. كانوا بيتكلموا مع بعضهم وأنا بقعد لوحدى"، تحاول مدرسته معرفة سر صمت ذاك التلميذ فلا ينبس ببنت شفة، فتتخلى عن إنسانيتها ومهنيتها وتضربه بالعصا جراء صمته .

"كرهت المدرسة".. صفوت يعيش فى عزلة

عاش صفوت فى عزلة ما أقساها على طفل فى عمره، وتولد لديه شعور بالكراهية للمدرسة ومن فيها، فلم يجد إلا الهروب ملاذًا من سخريتهم وتنمرهم، يقول صفوت بلغة الإشارة: "كرهت المدرسة ومبقتش أحب أروحها.. ساعات كنت بقعد فى الشارع لحد الساعة الثانية ظهرا وأروّح كأنى كنت فى المدرسة"، تسأله أمه عن يومه الدراسى فيخبرها أن كل شىء على ما يرام، وإن لم يكن كذلك فماذا يقول؟! أيصارحها بأن هؤلاء الصبية يعايروه بأمه البكماء؟! سأحتفظ بشكوتى لنفسى.

 

إهانات يومية وإخفاق دراسى

فى تلك الظروف لا يمكن أن نتوقع تفوقًا دراسيًا لصفوت، فتلك الإهانات اليومية لابد وأن يتبعها إخفاقه دراسيًا، فيزداد ألمًا فوق ألمه، ويعيش صمتًا فوق صمته، حتى نسى الكلام، ولم لا ؟! فجهاز النطق لديه مهمل فقد فاعليته وأصبح صفوت فى تشخيص الأطباء "أصم"، يروى صفوت مأساته: "حسيت إنى مخنوق ومش عارف أتكلم ومفيش لغة حوار مع حد، ففضلت الصمت.. مبقاش يطلع ليا صوت ونسيت الكلام"، فتحول صفوت من طفل صحيح إلى آخر أصم.

 

المجتمع يرفض صفوت

هجر صفوت هذا المجتمع الغريب عنه، وذهبت به أمه لمدرسة للصم علّه يجد نفسه بين أقرانه الجدد بعيدا عن هؤلاء الذين يتفاخرون بألسنتهم، فالكل هنا فى العلة يتساوى، لن يعايره أحدهم بأمه البكماء ولن تطالبه معلمته بالحديث رغما عنه، ارتضى بذلك العالم، لكنه لم ينجُ من حماقات الساكنين خارج أسواره، فحينما شب عن الطوق عمل فى مطعم لتقديم الوجبات السريعة لزبائنه، يبدأ عمله بارتداء "اليونيفورم" ثم يحمل ما انتهى تحضيره من وجبات لتقديمها لأصحابها، حتى حدث ما لم يتوقعه، حين رفض أحدهم تناول طعامه بعدما علم أن من يقدمها له أصم، يتساءل صفوت فى استهجان: ليه إحنا بشر زى بعض؟!.

 

صفوت: إحنا مش قليلين.. إحنا 8 ملايين معقولة مش شايفنا

قد يظن قارئ هذه السطور أن هناك تهويلا فيما يتعرض له الصم والبكم فى شوارع القاهرة، ذلك الشعور ربما ساورنى أنا شخصيًا بعد أن استمعت إلى صفوت، فعقلى يرفض أن يكون هناك إنسان سوى يعيب على شخص علته، فصاحبنا صفوت فى طريقه إلى منزله بعد انتهاء يوم دراسى شاق بالمعهد، تظاهر صفوت بعدم معرفته عنوانًا يجهله مستعينا بقدرته التشخيصية كممثل ووقفت على بعد خطوات أراقب الموقف، سأل شاب يبدو أنه يدرس بالمرحلة الثانوية يرتدى زيًا مدرسيًا ويحمل حقيبة كتبه، فأجابه ساخرًا: "أنت مش من مصر ولا إيه" يخبره صفوت بقدر ما استطاع أنه من الصم ليرد عليه بسخرية: "أنت بتستهبل وبتحور عليا ما أنت بتتكلم أهو" تجمع زملاء الشاب حوله وأخذ كل منهم يشير إلى صفوت بإشارات بذيئة، تدخلتُ لإنهاء الموقف واستخلصت صفوت من بين أيديهم، وبعد دقائق قال لى بلغة الإشارة: ليه بيعملوا معانا كدة.. إحنا مش قليلين.. إحنا 8 ملايين معقولة مش شايفنا؟!

أهل فتاة يرفضون زواجها من صفوت لأنه "أصم"

فى حلكة الظلام ظهرت فتاة متكلمة فى حياة صفوت كبصيص نور يضىء له فؤاده يجعله يشعر أن هناك من يتقبله رغم علته، إذ عرف الحب طريقه إلى قلبه، أمامها يجد نفسه طليق اللسان، فاتحت الفتاة أهلها فى أمر زواجهما، فما كان منهم إلا أن رفضوه خوفًا على ذرية ابنتهم، ففى تصورهم أن الرجال لم تنضب بعد، وما أدراكِ فمن المحتمل أن تنجب ابنتهم أطفالا مثله، ليرد صفوت بإيمان وحكمة شيخ كبير: "أهلها مفكروش إنها ممكن تتزوج متكلم وتنجب أصم أو كفيف أو أى شكل من أشكال الإعاقة.. هذا الأمر بيدى الله".

 

نور الشريف يلهم صفوت الممثل

على أحد مقاهى القاهرة جلس صفوت فى انتظار أصدقائه، وقعت عيناه على شاشة التلفاز حين لفت انتباهه ذلك الممثل الذى يستخدم لغة الإشارة بحرفية، اندمج مع أحداث الفيلم (الصرخة للراحل نور الشريف ) راوده تساؤل يبدو ساذجًا للوهلة الأولى؛ ماذا لو كنت مكان نور الشريف؟! أنا أجيد لغة الإشارة فلماذا لا أفوز بفرصة للظهور على شاشات التليفزيون ؟!

 

كانت هذه الكلمات شرارة الحلم الذى ولد بداخل صفوت، شعر بأن الله يهيئ له الأقدار حين علم أن مخرجًا يحضر لعمل مسرحى أبطاله من الصم والبكم، سار فى طريقه للمسرح لا يملك إلا إحساسه عوضًا عن صوته محتفظًا بكلمات البعض الذين أخبروه أنه موهوب ويمتلك حضورا وخفة ظل تؤهله لتمثيل الكوميديا، خاض فترة تدريب على الألعاب المسرحية الخاصة بإحساس الممثل، قبل أن يلعب دوره فى مسرحية العطر فى أول مواجهة حقيقة أمام الجمهور.

 

ملف استثنائى لصفوت لالتحاقه بمعهد الفنون المسرحية

صفوت لم يكن - قبل قبوله - ضمن المتقدمين للالتحاق بالمعهد العالى للفنون المسرحية، لكنه ظل عالقًا فى أذهان أساتذة التمثيل داخل الأكاديمية ممن شاهدوا مسرحية "العطر"، انتهت فترة سحب الملفات ولم يحضر صفوت للتقديم، سأل الأساتذة زميلته "مادونا" كيف يمكن التواصل معه؟ هاتفته مادونا وأخبرته بضرورة الحضور غدًا إلى المعهد، وبالفعل حضر وكان الأساتذة فى استقباله وسمح له بالتقدم للمعهد استثناءً .

 

صفوت ممثل موهوب من الصم والبكم، لكنه لم يولد هكذا، إنما كان يتحدث مثلنا، لكن المجتمع عايره بأمه التي تعاني من الصمم، فهجر الكلام وأصبح أصما.