اليوم العالمى للقهوة .. محمود درويش وعذراء الصباح الصامت
اليوم العالمى للقهوة، هو يوم يحتفل به الملايين حول العالم من عشاق المشروب الصباحى الأخاذ، والذى تحل ذكراه، اليوم السبت، فى عدد كبير من البلدان.
وكما للقهوة مذاقها البديع فى الفنجان، لها أيضًا مذاق خاص فى الشعر، وحين يجرى الحديث عن عشق القهوة والكتابات التى سردت عنها، فلا تغيب عن كتابات الشاعر الراحل محمود درويش.
الشاعر الفلسطينى من أبرز من افتتنوا بالقهوة وكتبوا عنها، فكان يغازل فنجان قهوته فى أشعار كمن يغازل حبيبته، فالقهوة فى عيون شاعرنا كالحب، وقد احتفظ لها أيضًا بأعظم المعانى والصفات، وبدا من تفنيده لطريقة تحضير القهوة ووصفه لرائحتها واختلاف طعمها باختلاف اليد التى تعدها، كخبير فى القهوة التى تبدو من خلاله وكأنها علم يمضى فى دراسته أغلب أوقاته، وبهذه المناسبة نستعرض أبرز كتابات محمد درويش عن القهوة، والتى وردت فى كتابه "ذاكرة النسيان"، وهى كالتالى:
القهوة هى هذا الصمت الصباحى الباكر المتأنى والوحيد الذى تقف فيه وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزله فى سلام مبتكر مع النفس والأشياء وتسكبه على مهل فى إناء نحاسى صغير وداكن وسرى اللمعان، أصفر مائل إلى البنى ثم تضعه على نار خفيفة، آه لو كانت نار الحطب.
والقهوة، لمن أدمنها مثلى هى مفتاحُ النهار، والقهوة، لمن يعرفها مثلي؛ هى أن تصنعها بيديّك، لا أن تأتيك على طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولى يفسدها الكلام الأول لأنها عذراء الصباح الصامت. الفجرُ، أعنى فجري، نقيضُ الكلام. ورائحة القهوة تتشرّب الأصوات، ولو كانت تحيةً مثل "صباح الخير" وتفسد.. لأن القهوة فنجان القهوة الأول هى مرآة اليد واليد التى تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التى تحركها وهكذا فالقهوة هى القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار.
أعرف قهوتى وقهوة أمى وقهوة أصدقائى أعرفها من بعيد وأعرف الفوارق بينها.. لا قهوة تشبه قهوة أخرى ليس هناك مذاق اسمه مذاق القهوة فالقهوة ليست مفهوما وليست مادة واحدة وليست مطلقا لكل شخص قهوته الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته، ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة وذلك يعنى أن مطبخ السيدة ليس مرتبا، وثمة قهوة لها مذاق الخروب ذلك يعنى أن صاحب البيت بخيل وثمة قهوة لها رائحة العطر ذلك يعنى أن السيدة شديدة الاهتمام بمظاهر الأشياء وثمة قهوة لها ملمس الطحلب فى الفم ذلك يعنى أن صاحبها يسارى طفولى وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تألب البن فى الماء الساخن ذلك يعنى أن صاحبها يمينى متطرف وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغى ذلك يعنى أن السيدة محدثة النعمة.
لا قهوة تشبه قهوة أخرى لكل بيت قهوته ولكل يد قهوتها لأنه لا نفس تشبه نفسا أخرى، وأنا أعرف القهوة من بعيد تسير فى خط مستقيم فى البداية ثم تتعرج وتتلوى وتتأود وتتلوى وتتأوه وتلتف على سفوح ومنحدرات تتشبث بسنديانة أو بلوطة وتتغلب لتهبط الوادى وتلتفت إلى ما وراء وتتفتت حنينا إلى صعود الجبل وتصعد حين تتشتت فى خيوط الناى الراحل إلى بيتها الأول.
رائحة القهوة عودة وإعادة إلى الشىء الأول لأنها تتحدر من سلالة المكان الأول، هى رحلة بدأت من آلاف السنين وما زالت تعود، القهوة مكان القهوة مسام تسرب الداخل إلى الخارج وانفصال يوحد ما لا يتوحد إلا فيها هى رائحة القهوة هى ضد الفطام ، ثدى يرضع الرجال بعيدًا، صباح مولود من مذاق مر حليب الرجولة والقهوة جغرافيا.
أُريد رائحة القهوة. لا أريد غير رائحة القهوة. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة، رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدمىّ، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتى من هذا الفجر على قدميه. لنمضى معًا، أنا وهذا النهار، إلى الشارع بحثًا عن مكانٍ آخر.
أُريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق .. أُريد هدنة لمدة خمسة دقائق من أجل القهوة. لم يعد لى من مطلب شخصى غير إعداد فنجان القهوة. بهذا الهوس حدّدت مهمتى وهدفى. توثبتْ حواسى كلُّها فى نداء واحد واشرأبّت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة.
كيف أذيع رائحة القهوة فى خلاياى، وقذائف البحر تنقضٌّ على واجهة المطبخ المطل على البحر لتنتشر رائحة البارود ومذاق العدم؟.. صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين، ثانية واحدة.. ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الزفير والشهيق، أقصر من المسافة بين دقّتى قلب.. ثانية واحدة لا تكفى لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر.. ثانية واحدة لا تكفى لأن أفتح زجاجة الماء، ثانية واحدة لا تكفى لأن أصبّ الماء فى الغلاية. ثانية واحدة لا تكفى لإشعال عود الثقاب. ولكن ثانية واحدة تكفى لأن أحترق.
خُذْ القهوة إلى الممرّ الضيق. صبّها بحنان وافتنان فى فنجان أبيض، فالفناجين داكنة اللون تفسد حرية القهوة.. راقِب خطوط البخار وخيمة الرائحة المتصاعدة. أشعِل سيجارتك الآن، السيجارة الأولى المصنوعة من أجل هذا الفنجان، السيجارة ذات المذاق الكونى التى لا يعادلها مذاق آخر غير مذاق السيجارة التى تتبع عملية الحب، بينما المرأة تدخِّن آخر العرق وخفوت الصوت.. ها أنذا أُولد. امتلأت عروقى بمخدرها المنبّه، بعدما التقت بينبوع حياتها، الكافيين والنيكوتين وطقس لقائهما المخلوق من يدى.. تساءل: كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟ كم قال لى أطباء القلب، وهم يدخنون: لا تدخِّن ولا تشرب القهوة. وكم مازحتهم: الحمار لا يدخن ولا يشرب القهوة، ولا يكتب.
لمزيد من الفيديوهات الإخبارية والرياضية والسياسية والترفيهية