التوقيت الجمعة، 22 نوفمبر 2024
التوقيت 09:21 ص , بتوقيت القاهرة

يوم العجب والموت!

ست سنوات قضيتها في دراسة الطب، وعام سابع يدعونه "الامتياز" يوشك على النهاية، الأجواء رتيبة، المستشفى على غير العادة في هكذا وقت، تخلو من المرضى في قسم الطوارئ، عادة يزدحم القسم في هذا الوقت، مصابون في حادث سير بسيط، أو كبير، حالات ارتفاع في الضغط أو السكري، أو حتى رضيع تأتي أمه مسرعة به، لأنه يا حول الله لم يقض حاجته منذ أيام.


نوبتجية مثالية للراحة، ولشرب الشاي مع كاتب الاستقبال، خفيف الظل، ربما يلقي نكتة جديدة، أو يأخذنا الحديث عن كرة القدم التي حالت سنوات الدراسة ونوبتجيات الامتياز بيني وبين متابعتها كما ينبغي. أهنالك مأساة أكبر من عدم القدرة على مشاهدة مباريات كان بطلها أبو تريكة؟!. توجهت إلى صديقي كاتب الاستقبال قاصدا الشاي الذي يحب "الدردشة".


"هي المستشفى هادية ليه النهاردة؟".. كان سؤالي الأول لزوم "فتح الكلام"، فأجابني: "هو أنت ماتعرفش ولا إيه يا دكتور.. النهاردة ماتش الأهلي والمصري.. البلد كلها في الاستاد من الصبح".. لا أدري لماذا لم أتذكر موعد المباراة، تعجبت لأنني مررت في طريقي إلى المستشفى أمام الاستاد، وسمعت صخب الجماهير ولم ألتفت!.. لماذا لم أجد كمائن التفتيش والتأمين المعتاد؟.. ألم يكن هذا كاف لتذكيري بالمباراة؟!. لم أكد أفيق من نوبة السرحان حتى باغتني كاتب المستشفى بأنه سيذهب إلى المقهى المقابل لمشاهدة المباراة "لو فيه حاجة اتعامل انت بقى يا دكتورنا".



آدى أيّـــــــام العجـــــــب والمـــــــوت
جـــات بســـرعة زى غمضـــة عـــين


أصابني ضيق شديد، الأهلي هنا في بورسعيد، وأنا أنسى موعد المباراة، وأصلا لدي نوبتجية، لعنت الغفلة والطب ووزارة الصحة و"الكل كليلة"، ثم انصرفت إلى اللاشيء، لم أفكر حتى في متابعة المباراة عبر الأثير، اندمجت مع فتيات التمريض في أحاديث تبدو مضحكة، لكنها حقا سخيفة، شاركتهن الضحك على سخريتهن من بعضهن أو من المرضى "البصباصين"، كل فتاة ترى نفسها أجمل إناث الكون، عدت للسرحان في هذا العبث، لكن كل شيء تغير فجأة.


بلاغ إلى المستشفى، الإسعاف سيأتي بحالة مصابة من الاستاد، هل تعرض لاعب إلى إصابة قوية؟، أدعو الله ألا يكون أبو تريكة، تدخل عربة الإسعاف مسرعة، يحمل المسعفون منها مراهقا لا يبدو أنه أتم عامه العشرين، جسده يكسوه ويملؤه الرمل، ساقه اليمنى تستلقي إلى جانبه مكسورة من أسفل الركبة! جثة لا حياة فيها.. "إيه دا.. فيه إيه؟".. أجابني أحد المسعفين: "الدنيا مقلوبة والإسعاف مالي محيط الاستاد..فيه مصابين بالهبل لسه جايين في عربيات ورانا".



والكــــابوس مـــن كـــل جنــب يجيبنى
زىّ أعمـــــى يحـــــسّ لمـــــّا يجــــسّ


أبلغت إدارة المستشفى التي تواصلت مع كل الأطباء، جميع التخصصات، الكل متحفز، مرتبك، يبدو القادم أسوأ، إصابات المراهق الصغير توحي بكارثة، سيارات الإسعاف توالت، أصوات "ساريناتها"، تداخلت مع أصوات كل من بالمستشفى، المسعفون مذعورون، ينقلون المصابين والضحايا بأيد مرتعشة، سيارة الإسعاف الواحدة تحمل أكثر من ضحية، الأطباء والتمريض أسقط في أيديهم، ماذا نفعل؟، المشهد أكبر من طاقاتنا وقدراتنا على التحمل.. "اعمل انعاش قلبي لدا.. لا دا مات خلاص".. "دا لسه فيه نفس اجري عليه" يبدأ أحدنا في إنعاش قلبه، يرفض جسد الشاب الاستجابة.. يموت. موت وراء موت، لا أحد منا يصدق ما يراه، لا أحد منا يعرف ماذا حدث في ستاد بورسعيد، لا أحد منا يعرف لماذا يموت هؤلاء الشباب، لا مجيب على سؤال بحت من أجله أصواتنا جميعا: " الناس دي ماتت لييييه؟".


أنكمــــش فــــى جتّتــــى مـــن البـــرد
لسّــــه حــارجع طفـــل تحـــت المطــر
وأنحنـــى ع الأرض وافضــل عجـــوز
اتوهمـــت الخـــوف دهســـنى الخطــر
كـــــل شـــــئ إلا الخيانــــــة يجـــــوز


طفل لا يزيد عمره على اثني عشر عاما، أتى بين حياة وموت، يضع بين بطنه وحزامه علم الأهلي، لدقائق حاولت إنعاشه بكل ما أوتيت من قوة،  أغرق جسده المكسو بالرمل بدموع لا تتوقف، يرفض عقلي الاعتراف بموته، توقفت فقط حين تخدّل زندي من التعب، سترت جثمانه بعلم الفريق الذي مات وهو يشجعه، وارتميت إلى جواره أواصل البكاء... هاتفه لم يتوقف عن  تلقي الاتصالات، أخرجته من جيبه، قرأت الاسم على الشاشة: "ماما"، في خلفية الشاشة ظهرت صورة "ماما" تحتضن صغيرها، لم أعرف كيف أرد، هل أخبرها أن صغيرك الذي تركتيه يذهب لمشاهدة مباراة لن يعود؟ لن يسعدك الحظ يا "ماما" بصورة أخرى مع ابنك وحضن جديد؟.. أي إنسان يمكنه تحمل ما يحدث؟!.. أنا أموت، وزملائي يموتون إلى جواري، أعصابنا لم تعد تحتمل ما يحدث، الجثث زادت عن طاقة المستشفى، كنا نضع ثلاث أو أربع جثث على سرير واحد، أو في الأرض التي ستحتضنهم إلى الأبد. 


الوقت يمر ببطء شديد، لم يعد هناك المزيد من الجثث، بدأنا في حصر الوفيات والمصابين، النيابة بدأت عملها، وأناس يصورون الجثث علّهم يجدون من يتعرف إليها، انتهت أسوأ نوبتجية في حياتي، تركت المستشفى بعد منتصف الليل، تركتها وأنا لا أعرف شيئا، لا أفهم شيئا، تعتصر روحي كتلة من الأحاسيس الكئيبة المرعبة، هرولت إلى مسكني، فتحت التلفاز بحثا عن إجابة، كانت المرة الأخيرة التي أشاهد فيها قناة رياضية، المرة الأخيرة التي أرى فيها أبو تريكة يجري فوق العشب الأخضر، غير أنه كان يجري من الموت، بعدها بسنوات قليلة، سمعت أنه علّق حذائه، لكني كنت قد سبقته منذ ليلتها إلى الاعتزال، اعتزال الكرة والحياة.


ربنا للطيبين أوحى 


السلام الهادى والفرحة


الإيمان اللي يقف للذل


الصمود القادر اللي احتمل 


خنقة الجبروت وقهر السنين 



*مستوحاة من شهادات حقيقية
*شعر: فؤاد حداد